السبت، 7 سبتمبر 2013

أقـدِمْ .. ثم أحْجِمْ !!
   الدكتور محمد سليم العوّا أحد المفكرين والقانونيين الذين نعرفهم ولا نعرفهم ، إذا قدم العوّا نفسه محاميا بارعا وقانونيا ضليعا فنراه مجيدا في هذا ولا نعترض عليه، أما إذا قدم نفسه باحثا ومنظّرا إسلاميا في التاريخ والسياسة ، فنجد أنفسنا أمام مغالطات لا حد لها وتناقض مشين لا يليق ، وقد لمسنا هذا قبل ثورة يناير في محاضرات عامة (حضرتُ إحداها في رأس البر، وكانت عن أهل الذمة في التاريخ الإسلامي ) وفي موضوع السلاح المكدّس في الكنائس ،  وفي سلسلة المحاضرات التي ألقاها في جمعية "مصر للثقافة والحوار" حاضنة حزب الوسط الإخواني ، وقد احتفت قناة الجزيرة مباشر بهذه المحاضرت احتفالا بالغا فأذاعتها كاملة عدة مرات على شاشتها . العوّا في هذه المحاضرات ، كما في كل خطابه عن التاريخ والسياسة يقدم خطابا شعبويا لا يقبل النقاش والجدل والمراجعة ، هو خطاب موازٍ لخطاب السلفيين في العقيدة والشرع .
  يعود العوا بوجهه الشعبوي السلفي الدوجمائي، حينما طلع علينا منذ يوم 30 يونيو وما بعده يوصّف الانقلاب ، ويرفضه ، ويدافع عن الشرعية ، ويتقدم بما يسمى مبادرات لحل الأزمة ، ولا نجد لكل ما يقدمه أثرا على الأرض ، فلا أطراف الأزمة قبلت مبادرته ، ولا هو سحبها ، إنه لا يتراجع أبدا ، معتمدا على الفكرة الإخوانية العتيدة : أقدِمْ وأحْجِمْ ، والإحجام غير التراجع ، وقد أحجم في موضوع "السلاح المكدّس في الكنائس" ، ولم يتراجع ، لم يعتذر ،فقط جعل منى الشاذلي وبعض الإعلاميين يقولون لنا عيب ! الراجل تراجع خلاص ، لموا نفسكم !! ولا توجد وثيقة واضحة تخبرنا أنه اعتذر في وضوح عما قال في حق المسيحيين والكنائس .
  يظهر العوّا يوم الجمعة 6سبتمبر ليقول على قناة الجزيرة أنه ضد الانقلاب ، يقولها في غير حماس ، كما هي حال الذين ( يعلكون جلود البلاغة علكا .. ولا يمضغون ) ثم يسأله المذيع عن آخر أخبار مبادراته ، فيكون رده في وضوح أنه كان على اتصال مع قادة الجيش حتى عشرة أيام مضت ، وأنه لم يتلق ردا على مبادرته حتى اليوم ، وهنا لابد لنا – منطقيا - أن نكذب العوا في إحدى روايتيه : رواية الشرعية وضد الانقلاب، ثم رواية الاتصال بقادة الجيش.
   أنا شخصيا أصدق العوّا في الروايتين ، هذا هو العوّا ببذرته الإخوانية العتيدة ( أقدِمْ وأحْجِم ) ، وفي ظني أن كل من يتعامل مع الجهات الأمنية ، ومن له مصالح معها ، لابد له أن يمتلك القدرة على تقديم هذا الخطاب المزدوج في كل لحظة ، العوّا فعلا ضد الانقلاب لأنه "إسلامي معتدل" ولن يخون انتماءه وزبائنه ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فالعوّا على اتصال بالجيش ، وقد ذكر عبد العظيم حمّاد في كتابه الخطير "الثورة التائهة" أن العوّا كان مرشح رجال الجيش العواجيز في الانتخابات الرئاسية  (ربما تراجع الجيش عن دعمه في الحملة الانتخابية هذا وارد ، لكن هذا كله لا ينفي علاقته بالجيش، وتفضيل الجيش له في تلك اللحظة ) ، وربما كان هو مستشار المجلس العسكري فأسهم في اختيار المستشار البشري وصبحي صالح في لجنة الدستور.
  سيظل العوا يعطينا دائما هذا الخطاب المزدوج طوال الوقت ، لن يعتذر عن أخطائه ولن يعترف بها ، سيحجم فقط ، هو أشبه بمن يقدم مراجعات فكرية ، ثم يقول لك : كانت مراجعات وليست تراجعات ، هم صادقون في هذا تماما ، نحن الذين أوهمنا أنفسنا يتغيير الأيديولوجيا ، الذي تغير هو أدوات الخطاب ووسائله ، مرحليا فقط .
   والعوّا ليس بعيدا عن أسلوب عريق يمكن العودة به إلى حسن البنا نفسه حينما كان يتفاوض أو يقدم عروضا لكل من الدكتور محمد حسين هيكل في عام 1935 أو زعيم الوفد النحاس أو مندوب الملك أو فؤاد سراج الدين، وكل ذلك مذكور ومثبت في كتاب "مذكرات في السياسة المصرية " لهيكل، وكتاب "من قتل حسن البنا ؟ " لـ محسن محمد .
حينما استدعى فؤاد سراج الدين حسن البنا عام 1942م ، دار بينهما الحوار التالي :
-         يا شيخ حسن عايز أعرف أنتم جماعة دينية أو حزب سياسي ؟ احنا ماعندناش مانع أبدا أنكم تكونوا حزب سياسي. أعلنوا على الملأ أنكم  بتشتغلوا بالسياسة ، وأنكم كونتم حزب سياسي ولا تتستروا بستار الدين ، ولا تتخفوا في زي الدين . أما أن تتستروا تحت شعار الدين "والله أكبر ولله الحمد " وفي نفس الوقت تقوموا بالعمل السياسي وتباشروا السياسة الحزبية فهذا غير معقول لأنه يخل بمبادئ تكافؤ الفرص بينكم وبين الأحزاب السياسية، أنا كرجل حزبي لا أستطيع أن أهاجم جماعة دينية تنادي بشعارات دينية سامية ، وإلا سأكون محل استنكار من الرأي العام .
رد الشيخ حسن البنا:
-          نحن لم نفكر في العمل بالسياسة ، ونحن فقط رجال دين ، ورجال فكر ديني ، وإذا كان قد صدر من بعض رجالنا أو من بعض شُعبنا أي عمل يخالف هذا الخط ، أو يدل على اتجاه سياسي فأنا أستنكره وسأوقفه عند حده فورا "  (كتاب محسن محمد ص ص 57-58 )
هنا كان حسن البنا يحجم ولا يتراجع ، ولذلك كتب تيرنس شون القائم بأعمال السفير البريطاني في القاهرة يوم 10 من أكتوبر( 1943م ) يقول :
" ربما يصبح الإخوان قوة سياسية خطيرة إذا قام تعاون حقيقي طويل بينها وبين الوفد أو تلقت منه دعما كبيرا . وتستخدم الجماعة الوفد حاليا لتحقيق أغراضها الخاصة . وبذلك يمكن أن تصبح السيطرة على الجماعة أمرا مستحيلا وتكون مصدرا كبيرا للقلق والاضطرابات "
   ثم رشح حسن البنا نفسه وخمسة من أعضاء الجماعة في انتخابات مجلس النواب في يناير 1945 ، ، ثم زوّرت الاتخابات ضدهم ،  وفي 25 فبراير عام 1945 ذكرت السفارة البريطانية في تقرير لها : "كونت عناصر معينة من كتائب الإخوان فرقة انتحارية ، وحسن البنا له كتيبته الخاصة من أربعين رجلا يختارهم بنفسه " ( كتاب محسن محمد ص 67)  .
  لقد كان حسن البنا وأتباعه طوال الوقت ، يركبون مطية الدين للوصول إلى غرضهم السياسي ، وكان مرتضى المراغي مدير الأمن العام يجري حوارا مع حسن البنا من أجل ضم الإخوان لمؤيدي الملك فاروق ، فقال للبنا " لسان حالكم يقول : والله لنخوض إليكم الباطل حتى نصل إلى الحق ، أو من باب الضرورات تبيح المحظورات "
-         قال البنا: نعم لك حق.
إن العوّا مثله مثل البنا بخطابه المتناقض المزدوج الرسالة، إنما يسير على الدرب الإخواني العتيد، يريد العوّا أن يرضي اتباعه في التيار الإسلامي، فيعرض نفسه وقد  " أقدَم " يريد قطع يد الجيش، ثم يرى نفسه عاجزا عن هذا ، فيحْجِم ، لكنه يأتي "بحركة" إخوانية بامتياز ، فإذا به يقبّل يد الجيش في نشوة وتلذذ !!  

تحريرا في 7 سبتمبر 2013م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق