الجمعة، 23 أكتوبر 2009

أنــا والنقاب
صحوت ذات يوم فإذا ابنة أخي البالغة من العمر ستة عشر عاما ، تخبئ وجهها خلف نقاب أسود ، و لم تمض بضعة أشهر إلا و أختها الأكبر منها تتبع خطواتها ، فترتدي النقاب الأسود ، اتباعا لتعليمات أختها الأصغر. ثم مرت شهور قليلة فإذا أختي البالغة من العمر خمسة و ثلاثين عاما ، تضع النقاب الأسود هي الأخرى ، فتصبح ثالثة الأثافي، وتتابعت لابسات النقاب في العائلة فلبسته ابنة خالتي المتزوجة في بلدة قريبة ، و هلم جرا . وهؤلاء جميعا يعيشون على مبعدة مني ، ثم انتقلت إلى شقة جديدة فإذا صاحبة المنزل منتقبة ، وأخيرا تزوجت أخت زوجتي ، وزوجها سلفي يرى النقاب فرضا لازما فألبسها إياه وكان شرطا لازما قبل الدخول بها فانصاعت له هي وأهلها انصياعا أذهلني . وبذلك دخل النقاب عالمي من أوسع الأبواب فأحاط بي وطوقني في مدة لم تتجاوز ثلاث سنوات .
لم تكن ابنة أخي الصغرى ، و رائدة العائلة ، تخشى شيئا على الإطلاق ، من ملامة أو مساءلة ، فهي تلميذة في المدرسة الثانوية ، التابعة للأزهر ( معهد ديني ثانوي ) و لابد أنها تضع نفسها في موضع المفتي صاحب الحق في قيادة المؤمنين إلى الجنة و منعهم من ورود النار ، و كانت الأسرة الصغيرة ، التي تنتمي إليها ابنة أخي مشغولة بالأمر جديا ، فأبوها يحتفظ بلحية معتبرة ، ثم هو يراوح بين الذهاب مع جماعة الإخوان المسلمين تارة ، و الارتماء في أحضان جماعة التبليغ و الدعوة تارة أخرى ، و فد بادرت زوجته أيضا إلى ارتداء الخمار .
البنت الصغرى ، و هي تلميذة المعهد الديني تحفظ القرآن كاملا ، حفظته على مدى سنوات ، هي سنوات دراستها في المعهد الابتدائي والإعدادي ، فلما انتقلت إلى المعهد الثانوي أخذت تجود حفظها و تؤكده ، و لأنها لا تدرس من علوم الدين ، سوى متون قديمة غامضة لا تفقه منها شيئا ، فإنها تعتمد في معارفها الدينية على مصادر أخرى غير المدرسة و الكتب .
هي تعتمد على أقوال العامة ، و دعاة الفضائيات ، و أشرطة الكاسيت الأصلية ، أعني الأشرطة السعودية ، و المقلدة منها و هي الأشرطة المصرية . فالقرية زاخرة بهذه المادة ، و سيارات نقل الركاب التي اعتادت أن تركبها من القرية إلى المدينة الريفية القريبة ، يضع سائقوها أشرطة الكاسيت الزاعقة التي ينادي أصحابها بالنقاب ، و يتوعدون البنات و النساء بعامة بالويل و الثبور و عظائم الأمور ، ، ثم هناك مصدر آخر للمعرفة الدينية هو المسجد ، و به عدة أبواق معتبرة تبث يوميا نداءات محمومة زاعقة ، و الفتاة لا تسمع سوى هذه النداءات ، فالتليفزيون أصبح محرما ، إلا إذا فتح على تلك الفضائيات ، و الراديو متوقف مؤشره على إذاعة القرآن الكريم إذا فتح ، و في الغالب فإن سائق سيارة الأجرة يضع في مسجل سيارته واحدا من تلك الأشرطة التي تدعو إلى الحجاب و تحذر من فتنة النساء ، و تدعو النساء إلى التزام مكانهن الطبيعي وهو المنزل.
أما الأخت الكبرى من بنات أخي فقد درست في معهد عال لمدة أربع سنوات خارج المحافظة التي تقيم بها الأسرة ، فكانت تسافر و تختلط بالناس ، و تعرف من الحياة بعض الجديد والمختلف عما عهدته في بيتهم و أسرتهم ، ثم تخرجت و عملت مدة في صيدلية ، ثم عملت مدة أخرى في روضة أطفال ، و أخيرا اشتركت مع زميلتين لها وأنشئوا مشروعا خاصا هو روضة أطفال استأجروا لها مكانا في مركز شباب القرية ، و قد افتتح المشروع ، بعد أن أتموا الإجراءات ، و أسسوا المكان .
في هذه الظروف التي تحقق فيها الفتاة ذاتها نوعا من التحقق ، و تنجز لنفسها هذا الإنجاز الذي قد يوحي بالاستقلال والقدرة على المبادرة ، لجأت ابنة أخي إلى النقاب ، متبعة خطوات أختها الصغرى ، وهي التي لم يكن منتظرا منها أن تفقد شخصيتها وأن تختبئ خلف النقاب ، منصاعة لمن هي أقل منها معرفة و علما و خبرة في الحياة ، و لكن هيهات إن المعرفة الحقة هي المعرفة الدينية ، و الأخت الصغرى هي التي تحفظ القرآن و هي التي تدرس في الأزهر، فطرحت الأخت الكبرى النقاب على وجهها فاختفت من الحياة الاجتماعية إلى الأبد.
أما أختي التي كانت صغرى بنات الأسرة ، فقد كانت تتقابل مع زملائي و أصدقائي كل يوم في البيت ، يعرفونها و تعرفهم ، و يكلمونها و تكلمهم ، و تعلمت في مدرسة متوسطة ، ثم عملت في مؤسسة أهلية و تزوجت و أنجبت الأطفال ، و هي معروفة لأهل القرية جميعا ، و لها حضور اجتماعي ملحوظ ، و كان زوجها يهوى الحياة الاجتماعية الصاخبة ، فيستضيف أصدقاءه في منزله للطعام و المسامرة ، و الأسرة الصغيرة تعيش في كنف عائلة كبيرة في بيت واحد ، و أفراد العائلة يترددون على المنزل ، كل يوم بل كل ساعة ، و فجأة انتهى كل ذلك ، فكيف و لماذا ؟
إنها القصة ذاتها تتكرر كرة أخرى ، فقد التحق واحد من أبناء العائلة بالمعهد الديني و أتم حفظ القرآن ، و أخذ يصعد المنابر ، و ينافس زملاءه في الخطابة ، و لكنه يمارس الخطابة على طريقة أصحاب الأشرطة المذكورة ، و على نمط خطباء القنوات الفضائية ، و لا دخل للكتب و المتون القديمة العقيمة بما يقوله الشيخ الصغير على المنبر وإنما هي سلطة شيوخ الوهابية الذين يقلدهم ، و الذين تقوم حربهم على النساء بالدرجة الأولى ، فهن بيت الداء ، و أس البلاء ، و هن حبائل الشيطان ، فحجابهن فريضة ، و نقابهن مكرمة ، و صوتهن عورة ، و خروجهن للشارع فتنة ، و يبدأ الشيخ بأمه ، ثم بأخته ، ثم يلتفت إلى نساء العائلة و بناتها ، و تنتقل العدوى تلقائيا إلى النسوة و البنات من الجيران ، و يغلب لون السواد في الشارع على كل ما عداه من ألوان ، بل لا يبقى هناك ألوان و لا أصوات ، و لا جمال ، و لا ذوق ، بل قبح و كآبة تعم الجميع .
إن التعليم الردئ أصبح أشد خطرا من الأمية ، و هؤلاء الفتيات ، و أولئك الفتية الذين درسوا في المدارس الأزهرية ، لم يكن حظهم أسوأ من زملاء لهم سبقوهم إلى جامعة الأزهر ، فهؤلاء يستمدون معارفهم التي يبثونها في الناس من المصدر نفسه ( الأشرطة و القنوات الفضائية ) و لقد عرفت طالبا كان يدرس في كلية التجارة بجامعة الأزهر في القاهرة ، و كان يعود إلى القرية كل أسبوع محملا بعدد من أشرطة الكاسيت لهؤلاء الخطباء ، يشتريها بسعر الجملة من الشركة المنتجة ليبيعها في القرية و يستفيد بالربح الذي يجنيه من هذه التجارة الرائجة .
لقد أصبحت شاهد عيان على غزو النقاب لعائلتي وجيراني وأقربائي ، و هو أمر لم أكن أتخيل حدوثه مجرد تخيل منذ ثلاث سنوات مضت ، و لكنه أصبح حقيقة واقعة ، إنه يتهددني، ويطراد ابنتي ، و لهذا يتولاني الرعب منه ، فلا أدري اليوم هل سيهزمني ، أم أنني سأعيش حتى أراه يتوارى منسحبا إلى حيث كان في غابر الزمن ؟
26-12-2008م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق