يوم في حياتي
كان يوم الأربعاء يوما عاديا ، لكنني تأملت فيما حدث لي ، بعد العودة إلى المنزل آخر النهار و حيث أن ما جرى ، و هو عادي جدا ، يعطي صورة عما يحدث معنا جميعا كل يوم ، فإنني رأيت أن أسجل ذلك الذي جرى .
في الصباح اتصل بمنزلي عامل البريد - الذي كنا نسميه زمان ساعي البريد - تليفونيا ، يخبرنا أن خطابا قد وصل باسمنا وأن علينا استلامه ، قلت حاضر ، و ذهبت إلى مبنى البريد فلم أجد ذلك الذي اتصل ، و قال زملاؤه عد فإننا نعمل حتى العاشرة مساءا . تركت مبنى البريد و ذهبت إلى مبنى الاتصالات ، كنت أقوم ببعض الإجراءات وقفت أمام شباك ، و كان يقف أمامه رجل أربعيني بثياب بيضاء و لحية كثة طويلة ، قلت هل تلك السيدة الواقفة على باب المكتب من الناحية الأخرى هي من تنتظرها ؟ قال هن كثيرات ، ثم جاءت إحداهن ، و اتجهت إلى الشيخ بالسؤال فقالت :
- هل يجوز أن نترحم على من مات من المسيحيين ؟
- قال الشيخ في ثقة وحزم ، بل يجب أن نحذرهم من النار و فقط ، واتجهت السيدة إلى زميلتها قائلة ، يقول لك لا يصح الترحم عليه .
و إذا بي أقول لها في حدة ، هل هذا الذي يقف أمامك - و أنا أشير إليه - هو نبي ؟ قالت لا ، و لكننا كنا نتساءل ، فقد مات زميلنا أمس ، قلت هو زميلكم وهو مسيحي ، و عليك أن تترحمي عليه ؛ لأنه يؤمن بالله ، و لكنك أخذت كلام هذا و كأنه نبي و لم تترددي في أن تخبري زميلتك بما قاله في ثقة عمياء ، فلماذا تثقين فيه هكذا ؟ و كان اللافت أن هذا الشيخ لم يعلق على كلامي و لم ينطق حرفا بل صمت تماما ثم انصرف .
المشهد الثالث كان في كلية الآداب بدمياط ، و هي كلية وليدة ، تنتدب أغلب من يدرسون بها من كلية آداب المنصورة ، و بعد أن انتهيت من أداء محاضرتي الأخيرة ، عدت للقاء صديقي رئيس قسم اللغة العربية ، و إذا به يرفع في وجهي كتيبا صغيرا قائلا :
- أتدرى بما فعله الدكتور إبراهيم شاهين أمس مع طلاب الفرقة الثانية التي كنت تدرس لها الآن ؟
- قلت : إبراهيم شاهين هذا هو الذي يدرس لهم الفلسفة الإسلامية ؟
- قال : نعم
- قلت : أظن أنه متخصص في التصوف ؟
- قال : لقد جاء أمس ووقف في مكتب العميد و أمسك بجذعه و اشتكى من ألم في الظهر ثم اعتذر ، بأنه لا يستطيع حضور المحاضرة ، وكانت هذه هي المرة الخامسة من أصل 12 مرة المفروض أن يحضرها للطلاب ، لكنه استدرك قائلا : لقد جئت معي بمساعد من المعيدين لأداء المحاضرة نيابة عني ، ثم انصرف بعد نصف ساعة .
ثم قال رئيس القسم :
- وجاء الطلاب إلى مكتبي فسألتهم عن حالهم مع الدكتور إبراهيم شاهين الذي أوصيناه بهم خيرا ، فإذا بالطلاب يظهرون مطبوعا في عدة صفحات ، و يقع في جزءين ويقولون : لقد باع لنا المعيد هاتين المذكرتين الصغيرتين بأربعين جنيها .
- قال رئيس القسم : ولكن كيف تشترون كتابا آخر وقد اشتريتم الكتاب الأصلي بــ 40 جنيها وانتهى الأمر .
- قال الطلاب : لقد قال لنا المعيد ، أن هذه المذكرة بها أسئلة الامتحان ، ثم حاولنا شراء واحدة فقط بعشرين جنيها فإذا بنا نكتشف أن كل واحدة منهما بها أسئلة مختلفة عن الأخرى فكان شراء واحدة فقط لا يغني ، ولابد من شراء الاثنتين بأربعين جنيها كاملة غير منقوصة .
و نجح الأستاذ الدكتور إبراهيم شاهين في مهمته التي خرج من منزله في المنصورة لأدائها في دمياط ، وانصرف هو ومساعده ، دون أن يناله مكروه ، و لابد أن ظهره قد تعافى تماما و المعيد يسلمه المبلغ ( المحترم ) الذي حصله من طلاب آداب دمياط في دقائق معدودة ، كان قد شرب أثناءها الأستاذ الدكتور عالم التصوف قهوته في مكتب العميد .
لقد اكتفى المسئولون في آداب دمياط بإرسال خطاب اعتذار إلى الأستاذ الدكتور إبراهيم شاهين ، يأسفون فيه لأنهم يوقفون التعاون معه منذ العام القادم لما بدر منه مع طلابهم .
و سألت : لماذا لم تحولوه إلى التحقيق ، و تمنعونه أيضا من وضع أسئلة الامتحان و تصحيح أوراق الطلاب لما في ذلك من شبهة ظاهرة . قالوا : كيف نصنع هذا وهو وزملاؤه في آداب المنصورة يصنعون هذا كل اليوم ولا ينالهم أحد بسوء ، ثم إنه سوف يرد علينا بشكوى مقابلة يذكر فيها جميع أسماء الأساتذة و يرصد مخالفاتهم ، وندخل في متاهة لا نخرج منها .
و لم أعجب لهذه النتيجة ، و لكني تساءلت هل كان التصوف الذي كان الأستاذ والعالم الدكتور إبراهيم شاهين قد خرج من المنصورة مرتحلا إلى دمياط ليبيعه هناك إلا خرافات و أضاليل و حجابات و أعمالا سفلية ؟ فهذه وحدها هي التي يحصل أصحابها نقودا من زبائنهم ، أما التصوف الذي أعرفه ، فهو علم و سلوك ، و زهد و تأمل ، و عمق في الفكر لا يحمله تجار الشنطة و مندوبو المبيعات ، ومحترفو النصب والاحتيال .
ثم قلت لنفسي : انصرف الآن قبل أن تتمادي في ذكر " أعمال هؤلاء " حتى لا ينالك سوء من تكرار ذكرهم والتشنيع عليهم ، فإنك لا تأمن غائلة سحرهم .
وأخيراً عدت إلي مبني البريد ، والمؤكد أنني لم أجد الساعي الذي انصرف في الثانية والنصف ، وكان الموظف الموجود بالمبني يقوم بعمل آخر غير توزيع الخطابات ، فقال لي :
عد غداً في التاسعة صباحاً لاستلام خطابك ، جزاءً علي ثقة هذا الموظف بك ، وأنك لن تشكوه ؛ لأنه يوزع الخطابات بنفسه لمن يظن أنهم قد يشكونه .
- قلت غدا الخميس ، سيكون يوما جديدا ، أذهب فيه إلي مبني البريد ، ثم إلى مبني الاتصالات ، ثم إلى مبني كلية الآداب ، ولابد أنه سيكون يوماً عادياً جداً ، تحدث فيه كل هذه الأمور لي ولسائر المصريين .
9-5-2007
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
شكرا للتكنولوجياالحديثة التى اضافت رئة لللانسان ليتنفس بحريةو يعبر عن نفسه بصدق
ردحذف