حرب المساجد
(1)
الجامع والمصلية
عشنا زمنا في الريف كانت أغلب الصلوات تؤدى في البيوت وفي الغيطان ، وأما المساجد فكانت لأيام الجمع والأعياد ، و لبعض الصلوات كالفجر والعشاء ، أما الذين كانوا يواظبون على الصلاة في المسجد في كل وقت فهم فئة معروفة في القرية منهم شيخ الجامع ، وأحيانا حلاق القرية ، وبعض العواجيز الذين تجاوزوا السبعين ، وكان ينضم إليهم التلاميذ أثناء فترة الامتحانات لأن أهاليهم يتركونهم لمراجعة الدروس ، فتكون فرصتهم للترويح ، وقد يكون بعض الترويح في أداء الصلاة مع الجماعة في المسجد ، وأما إذا ذهب فلاح "طبيعي" إلى المسجد في كل صلاة لمدة أسبوع مثلا فاعلم أن ذلك لأنه "عيان" .
كانت "المصلية" هي المكان الذي يجهزه الفلاح للصلاة ، فيختار الفلاح مكانا تحت ظل شجرة ، على حافة الترعة ، فيحيطه بجدار واطئ ، ويفرشه بالقش ، ثم يجهز بمعونة جيرانه درجتين أو ثلاثا على الأكثر من الحجر للنزول عليها إلى الماء ، حيث الماء للوضوء والشجرة للظل وفرشة القش للراحة وتناول الطعام وأداء الصلاة .
كان في كل قرية مسجد واحد جامع ، كما فيها مقبرة واحدة ، وجمعية زراعية واحدة ، ولها عمدة واحد . فإذا كان لكل فلاح أن يفكر في تجهيز مكان للصلاة فإن أقصى ما يحاوله هو أن يجهز "مصلية" على رأس حقله ، ولابد أن يكون هذا الحقل على الطريق العمومي وتمر به قناة ري لأن المصلية تتطلب الماء الجاري لزوم الوضوء كما هو معلوم ، وأما أن تفكر إحدى الأسر في بناء مسجد لها ،لأن خلافا نشب مع أسرة أخرى يقع المسجد في مرابعهم ، فهذا ما لم تفكر فيه أية عائلة ولا أي فرد بالأحرى ، وظل المسجد والمقبرة والعمدة أشياء تشير إلى توحد القرية وتماسكها الروحي الذي قد تنغصه أشياء ولكن لا يهدمه شيء.
(2 )
وصفة جديدة : العلم والإيمان
ثم كان أن تغيرت وظيفة المسجد وكانت المدينة – والحق يقال – رائد التغيير، كانت الجامعة في السبعينيات ، عصر العلم والإيمان ، هي المكان الذي انتقلت منه دعوى وجوب الصلاة في جماعة حتى ولو كان ذلك على حساب العلم ، فسمعنا عن طلاب يخرجون من المحاضرة لأداء الصلاة في جماعة داخل الكلية ، وربما تبرع أحدهم فرفع عقيرته بالآذان داخل المدرج رغما عن الأستاذ المحاضر، طبعا الحال الآن أصبحت على ما نعرف ، حيث تضرب المواعيد بحسب أوقات الصلاة ، فأنت على موعد بعد العشاء أو بعد العصر، وليس في السابعة والنصف ولا في الثالثة إلا ربعا مثلا ، وبما أن أوقات الصلاة غير ثابتة ، ولا هي معروفة ، لأن المعروف وقت الآذان وليس وقت الصلاة ، والنتيجة أنك يجب أن تملك الشجاعة الكافية لكي تلوم رجلا قال لك موعدنا بعد الصلاة !!
اشتعلت حرب المساجد في المدن ، على مراحل ، فإحدى هذه المراحل ، كان فيها المرحوم الشيخ عبد الحميد كشك يقدم خطبه في قلب القاهرة ، على هيئة البرامج السياسية الساخرة التي اخترعها الأمريكان ولم نبرع نحن فيها ، أو لم يكن من الممكن تقديمها في التليفزيونات العربية ، فكان يسخر من أي أحد وكل أحد ، من السياسيين إلى المفكرين إلى لاعبي الكرة ونجوم الغناء .
ثم كانت الطوائف التي تسيطر على المساجد حلقة أخرى في حرب المساجد حتى أن صديقنا مجدي سبلة كتب في التسعينيات تحقيقا في مجلة المصور تحت عنوان " مساجد للإيجار " وقد صور التحقيق على نحو فريد ، كيف تمكنت طائفة من أصحاب المصالح من السيطرة على كثير من مساجد القاهرة والمحافظات ، وكانت وزارة الأوقاف في السبعينيات – عصر العلم والإيمان – قد تخلت عن بناء المساجد وتعيين الأئمة ، وتركت المهمة لأصحاب العمارات ، فنشأت تلك "المافيا " وتوحشت . وعادت الدولة تبكي على اللبن المسكوب ، ولكنه بكاءها جاء مصحوبا بهراوات أمن الدولة .
(3 )
توحيد القرية مع المدينة : مرحلة الميكروفون والكاسيت
المعركة الجديدة في حرب المساجد ، كانت على نمط الحرب الحديثة بحق ، فهي قاسية سريعة ومدمرة ، وهي حرب شاملة ، قامت الحرب في المدن والقرى ، في الشمال والجنوب ، لم يعد خطباء المساجد مثل أستاذهم الشيخ كشك يسخرون من أنيس منصور وصدام حسين ونوال السعداوي وشادية ، ولكنهم منشغلون بأذهان وعقول مستمعيهم لجذبها وتجنيدها نحو أفكار السلفية المستوردة من بلاد نجد من أتباع المذهب الوهابي ، ومعركتهم تتمثل في نشر أفكار بعينها ، وملخص هذه الأفكار ما يلي :
أولا : المسجد هو مكان إقامة للمسلم وليس مكانا للصلاة يتوجب الانصراف بعد أدائها إلى شؤون الدنيا ، ولذلك أصبح الخطيب البارع هو من تطول خطبته إلى ما فوق الساعة ، ويا حبذا لو وقف بعد الصلاة ليواصل الحديث .
ثانيا : الصلاة نفسها لم تعد خشوعا واتصالا بذات الله ، ولكنها إعلان للبراء والولاء ، فنحن نقيم في المسجد لأطول وقت ممكن ونعلن عن وجودنا به حتى نغيظ الأعداء وهم فئتان : المسلمون الذين لم يحضروا معنا هذه الصلاة ، حتى ولو صلوا في مكان آخر ، والمسيحيون الذين يسمعوننا ، نحن نغيظهم وننغص عليهم حياتهم بشتمهم أو التشنيع عليهم بطريق غير مباشر عن طريق صوت الميكروفون الذي يجب أن يعلن عن حضور المصلين ووجودهم .
ثالثا : كلما كان المسجد مزعجا أكثر كلما أدى مهمته على خير وجه ، ولذلك يستحسن أن يزود المسجد بعدد وافر من مكبرات الصوت لا يقل عن ستة وقد يصل إلى العشرة .
رابعا : المسجد هو عنوان على فئة من المصلين ، ودعاية لفكر فرد بعينه أو عدد من الأفراد ، قد يكونون عائلة من العائلات ، أوطائفة من الطوائف وكلها في الغالب سلفية ( أنصار السنة – التبليغ والدعوة – أو أتباع السلف بغير تحديد ) والخطيب أيا ما كان فهو جندي حضر للمعاونة في أداء هذه المهمة .
خامسا : الانسجام التام مع ما يرد في أشرطة الكاسيت من موضوعات وأهمها : تكفير المسيحيين ، الدعوة إلى نقاب المرأة المسلمة ، نشر الخرافة والتشنيع على كل فكر علمي ، الدعوة إلى الثقافة السمعية والحفظ والتكرار، الزعم بأن كل مسلم مكلف بالدعوة إلى الله ولو كان أميا ، ولو كان لا يملك وقتا حتى للصلاة ، التجاهل التام للشأن الحياتي من مشكلات النظافة والمرور والتعليم والصحة إلخ ، التركيز على الدعاء واستخدام الطريقة المسرحية في أدائه ، الدعاية للحج والعمرة وسط جموع الفقراء بما يرسخ في أذهانهم أن ذلك الفرض لا يشترط له القدرة والاستطاعة ، ولكنه فرض وحسب ، التشنيع على الغناء والموسيقى وتحريمهما وابتداع القصص المنحولة حول عذاب القبر ، الذي يبدو أنه لم يعد مخصصا إلا لمن يستمع إلى الأغاني .
(4)
الإجهاز على العدو
بعد أن استسلم المجتمع كله ، وهدأ وزير الأوقاف تماما ، منهزما في معركة الميكروفون ، حيث أراد توحيد الآذان وإسكات الميكروفونات بعدها ، وصلنا إلى المرحلة الحاسمة من الحرب، وهذا هو بروتوكولهم غير المعلن ، هم لا يعترفون به ، لو انكشف أمره ، إنهم ينكرونه ، ولكنهم يعملون به كدستور مقدس :
"الآن من يملك منبرا يبث منه أفكاره ؟ من يملك جمعية أهلية تساعد الناس على أداء فريضة الحج؟ ، من يبني زاوية جديدة تحت بيته الجديد العامر ؟ من كان منكم أستاذا جامعيا أو خطيبا مفوها ، أو حتى وكيلا للنائب العام فهو عما قريب سيادة المستشار!! ، ومن منكم لديه ولد التحق بالجامعة الأزهرية ويريد له منبرا يؤويه ، أيها السادة نحن الآن في آخر مراحل الحرب ، سوف تجري أنهار العسل واللبن ، ولكن حذار من الطابور الخامس ، نحن لا نقبل التشكيك ، ولا نستمع إلى رأي مخالف ، وهجومنا يكون قاسيا أشد القسوة ، خصومنا كفار ملاعين ، نقولها لهم بكلمات ملتوية مموهة ، والحرب خدعة ، لا نتردد في اتهام أكبر العلماء ولا تجهيل أعظم الفقهاء ، فكل خصم لنا مخالف لأفكارنا فهو عدو ، لا نحابيه ولا نسكت عليه حتى لا يتجرأ من هو أقل منه مكانة "
هذا البروتوكول السري تقوم على تنفيذه جيوش منظمة ، قد لا تبلغ الملايين عددا ، ولكن الحرب جندت بطريق غير مباشر الصغار والكبار المهنيين والصناع ، الأصحاء والعجزة ، النساء والشيوخ والأطفال .
وأما المعارضون للحرب فقد سكتوا تماما فلا تسمع لهم صوتا ، ومع أن أنينهم داخل منازلهم متواصل لا يسكت ، فإنهم لم يخرجوا للمقاومة ، لقد لحق بهم عار الهزيمة .
7 نوفمبر 2009
السبت، 7 نوفمبر 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق