الاثنين، 30 نوفمبر 2009

يا حبيبتي يا مصر
(عن حرب مصر و الجزائر)
ثلاثة أسابيع كاملة والإعلام المصري يولول ويندب ، الراديو والتليفزيون وبعض الصحف ومواقع على الإنترنت ، كلها كانت تعزف نغمة غريبة على السمع ، فالأغنيات الوطنية التي أذيعت كانت تبعث على الأسى و الأسف ، فقد كان أغلبها يستجلب الرثاء ، وإن بعضها كان يستدعي أجواء الحرب لأنها كتبت فعلا في زمن الحرب ، ولكن أي حرب تلك التي كانت تخوضها مصر على مدى ثلاثة أسابيع من شهر نوفمبر 2009 ؟
كنت أستمع إلى راديو السيارة بعض الوقت نهارا ، وكنت أبحث عن إذاعة واحدة لا تتحدث عن الكرة فلا أجد ، فإذا جلست أمام التليفزيون مساء لكي أتابع برامجي المفضلة وجدت الموضوع الوحيد المعروض هو كرة القدم ومنتخب مصر الكروي ، وظهر مذيع برنامج البيت بيتك الشهير تامر بسيوني ليقول : " أي كلام خارج موضوع الكورة سيكون غير مقبول "
كان هذا هو حال هؤلاء البؤساء قبل مباراة يوم السبت في القاهرة ، ثم ارتفعت النغمة الشوفينية ، وزادت جرعة العبط ، بعد المباراة وقبل مباراة الخرطوم ، وكان من الواضح أن لعبة المتاجرة بالمشاعر وجر الناس إلى ملعب التخاريف قد بلغت مداها ، حتى أن شركات المحمول استغلت الموقف وبدأت تجني أرباحا من شئ خرافي ومؤسف هو " الدعاء للفريق القومي " عبر الهاتف المحمول مدفوع الأجر.
ثم اكتملت أركان المأساة يوم الأربعاء وهو يوم إقامة المباراة في السودان ، بلغ التهييج مدى مذهلا ، كان في الساحة ثلاثة لاعبين رئيسيين هم : الفنانون من مغنين وممثلين ، والإعلاميون ، والسياسيون .
حمل الحزب الوطني ثمانين طنا من الأعلام ، وذهب الوزراء وأعضاء الحزب في طائرات ، وحشدت الجماهير المستفيدة من الدعم ، كانت المصروفات 400 جنيه فقط (تشمل الرحلة ذهابا وإيابا وتذكرة المباراة) لمن يذهب إلى السودان يؤازر الفريق القومي في حربه على الجزائر .
وانتهت المباراة بفوز الجزائر وانفض المولد وقال كل من لديه عقل في رأسه "الحمد لله ، ماذا كانوا سيصنعون لو فازوا" ، هذا هو منطوق العبارة التي سمعناها من كثيرين وقتها ، وقلناها لأنفسنا فعلا .
لكن القدر كان يخبئ لنا المفاجأة الأكبر ، فالذين حشدوا أنفسهم وعبأوا المشاعر بهذه الطريقة ، كيف يتخلصون من الشحنة الزائدة ؟
لم يكن في الحسبان أبدا أن يجرهم مشجعو الجزائر المهووسين لكي يفرغوا شحنتهم الزائدة أمامنا في الشوارع وعلى شاشات التليفزيون ، أحد أساطين الحزب الوطني هو الصحفي مجدي الدقاق رئيس تحرير مجلة أكتوبر اختار أن يكسب نقطة لنفسه كرئيس تحرير فوضع على غلاف العدد الجديد من مجلته عبارة " مبروك للجزائر " وفي اليوم التالي قامت مظاهرة في مجلة أكتوبر تطلب التحقيق مع المتسبب في هذه الفضيحة ، كيف نبارك للجزائر وهم أعداؤنا الذين هزمونا في معركة الخرطوم ؟
مظاهرة مجلة أكتوبر لم تكن هي الأخطر من بين ردود الأفعال الكثيرة ، بل لم تكن ذات بال لولا أن الشاشات عرضتها ، أما الذين وصلوا إلى مطار القاهرة من المشجعين فقد كان الهياج طافحا في ملامحهم وأصواتهم ، وتداعت جحافل الصحفيين إلى مطار القاهرة لتغطية الحدث الجديد " الألم المصري" والغضب الذي حملته الجماهير ، والشحنة المحتبسة داخل أجساد المهووسين بالكرة .
بدأت المباراة الجديدة يوم الخميس مساء باتصال تليفوني من علاء مبارك مع مذيع كروي ، ثم ظهر المغني المعروف محمد فؤاد وهو غاضب لا يستطيع السيطرة على نفسه ، وكانت لدى القنوات التليفزيونية ، مادة محدودة وبائسة هي لقطة فيديو أخذت بالتليفون المحمول ، ويظهر فيها أتوبيس محطمة نوافذه وبداخله زجاج مكسور ، وبدت بعض مقاعده منزوعة ، وكان محمد فؤاد يتولى الشرح للجماهير قائلا " المجرمون الجبناء اعتدوا علينا ، ولم يحمنا أحد ، الشرطة السودانية اختفت ، لقد أهانونا ، وكدت أموت أنا وابني ، كان همنا أن نحمي النساء ، وأنا لست جبانا ، ومكتب طارق نور بقرب المطار تحطم بعد أن ذهبنا للاحتماء به "
انتهت الليلة الأولى باتصال علاء مبارك وبكاء المذيع الكروي وفيديو محمد فؤاد ، ثم كانت ذروة المعركة يوم الجمعة ، فاستدعيت المذيعة الشهيرة منى الشاذلي للمثول أمام الجماهير ، وكان عليها أن تشرح لماذا تظهر يوم الجمعة وهو يوم عطلتها ، لكن ضيفها المغوار، وائل الإبراشي لم يترك لها فرصة للشرح فخطف الميكروفون وشرع يقدم نظريته في تفسير ما جرى ، فقال ( لا فض فوه ):
" إن الجزائر لم ترسل مشجعين ، بل أرسلت قوات خاصة ومجرمين ، اشتروا كل السكاكين التي كانت في الخرطوم ، وكان من بين المشجعين قوات خاصة من الجيش والشرطة في الجزائر، وأن المسألة كلها كانت خطة عسكرية وإجرامية دبرتها السلطات الجزائرية ، ولا يجب التهاون في محاسبتهم على فعلتهم الشنعاء "
وطلب نفر من المتحدثين إلغاء القومية العربية ، فاستدعت بعض القنوات حمدين صباحي وأسامة أنور عكاشة لسؤالهما " هل يمكن إلغاء القومية العربية ؟ وجاء المذيع على قناة الحياة بطرف ثالث ، لعله ظن أنه سيؤازر رأي أسامة أنور عكاشة المؤيد لإلغاء القومية العربية ، لكن الأستاذ رفعت رشاد رئيس تحرير آخر ساعة خذل المذيع ووقف مع حمدين صباحي ونجت القومية العربية بأعجوبة في آخر لحظة بصوت واحد هو صوت رفعت رشاد .
لكن منى الشاذلي كانت مصممة على إعادة التسجيل النادر الذي تحدث فيه علاء مبارك قائلا " كفايانا طبطبة " وكان علاء مبارك غامضا بعض الشيء ، لكن ما فهمته أنا من كلامه ، أنه كان مع إلغاء القومية العربية قبل نهاية الأسبوع .
ثم تطوعت فرقة من فرق المشجعين فزحفوا نحو السفارة الجزائرية في القاهرة ، يريدون حرقها ، فمنعتهم الشرطة ، لكنهم كانوا مصممين ، فوقعت معركة جرح فيها ضباط وجنود ، واتصل المقاتل الهمام وائل الإبراشي بأحد هؤلاء المشجعين المقبوض عليهم يسأله عما جرى له ، فجاء صوت المشجع مخيبا للآمال ، إذ قال بالنص " احنا اتهنا يا باشا بره مصر وجوه مصر ، وانا ماعنتش عاوز الجنسية المصرية ، أنا عاوز جنسية هندوراس "
لم يكن من المنطقي على الإطلاق أن تظهر منى الشاذلي ، لتغطية الحدث بهذه الطريقة الدرامية ، ويتركها منافسها معتز الدمرداش في الساحة وحدها ، كانت مفاجأة معتز من النوع الثقيل ، فاستضاف كابتن ( أي أركان حرب ) المنتخب الوطني واسمه أحمد حسن ، وكان معتز حريصا على التأكيد على أن أحمد حسن صعيدي ( لا أدري لماذا ، وفرقت أيه لو كان صعيدي ولا دمياطي زي عصام الحضري مثلا) المهم إن الكابتن أحمد حسن كان أكثر تشددا من الجميع ، وربنا قدره ، وانطلق لسانه بهذه العبارة " ظفر أي مصري أفضل من ال35 مليون جزائري " والتقط الفنيون في قناة المحور العبارة المأثورة فكتبوها مرتين على الشاشة بحسبانها من التصريحات التي تعتز بها القتاة وتؤكد على فحواها ، حتى يعلم المشاهدون أن القتاة تقدم لهم خدمة إعلامية راقية ، وأنها لم تقصر أبدا في المجهود الحربي ، أليس ذم الأعداء والتشنيع عليهم ، والإزراء بهم ، من أدوات الحرب المشروعة ؟
كانت الأحداث المذكورة بعاليه ذروة الهجوم المضاد بعد واقعة الخرطوم ، لكن همة المقاتلين بدأت تخبو وزاد الطين بلة أن ابن طارق نور المذكور في واقعة فيديو المحمول سابقا قد ظهر في إحدى القنوات لينفي تحطم مكتبه في الخرطوم ، وأكد أن مكتبه سليم ، وشكر السودانيين ، لكنه أضاف بيانا مهما لواقعة الأتوبيس حيث ذكر أن رجل المرور في الخرطوم وجه الأتوبيس بطريق الخطأ إلى الجهة التي كانت بها جماهير الجزائر ، وأن الجزائريين وجدوها فرصة سانحة لممارسة هوايتهم بالتحرش بجماهير الكرة من خصومهم ،كما اعتادوا وكما هو منطقي في عرف مشجعي الكرة المهووسين . وأخيرا تحدث طبيب باسم وزارة الصحة وأكد أن كل المصابين من العائدين من الخرطوم لا يزيدون على العشرين وأنه لا يوجد بينهم إصابات خطيرة ، وأن أحدا منهم لم يطعن بسكين .
كان لافتا للنظر أن إحدى أغنيات شادية الوطنية ، وفيها مقطع يقول "يا حبيبتي يا مصر" كانت أهم مادة غنائية أذيعت في الراديو في أسابيع المعركة الثلاثة ، وكانت مصر فعلا في أمس الحاجة إلى من يطبطب عليها ويقول لها " يا حبيبتي يا مصر !!
27 نوفمبر 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق