الخميس، 5 نوفمبر 2009

انتصــــار

صغرى أخواتي اسمها انتصار ، سماها أبي بهذا الاسم حيث ولدت في ظروف الانتصار عام 1973 ، ولكني لا أريد أن أتحدث عن الاسم الذي تحمله أختي ، بل عن فعل قامت به تحت ضغط من حماها وحماتها ، ومني أنا شخصيا .
هذا الأسبوع قررت أختي خلع النقاب الذي ارتدته لمدة عام واحد ، وقد خلعته فعليا ، وكان هذا العمل انتصارا أحسست أنا به ، ولابد أن حماها وحماتها قد أحسا به كذلك ، بل فرحا به مثلما فرحت . لكن القصة التي صاحبت النقاب في لبسه العام الماضي ، ثم خلعه هذا الأسبوع ، تستحق أن تروى لما فيها من معنى وقيمة .
كانت أختي ذات حضور اجتماعي ملحوظ قبل أن تتزوج وبعد الزواج ، فقد كنا في القرية نعيش حياة بلا حواجز ، أنا أدعو أصدقائي وزملائي إلى المنزل ، وهم يفعلون الشيء نفسه ، فتتقابل الوجوه ، النساء والرجال والأطفال ، من الأقارب والجيران والأصدقاء بلا حرج وبدون إجراء أي نوع من الحسابات على الإطلاق ، ثم أصبحت أختي تعيش وسط أسرة زوجها في عائلة كبيرة العدد وهي تعدهم أهلها وذويها واندمجت معهم بصورة كاملة ، حتى أننا ذهلنا لقدرتها على التجاوب معهم في سرعة ورضا ، لكن ذلك كان منطقيا وقد تربت على فكرة التعايش في جماعة بدون حواجز ، وكان زوجها أكثر ميلا إلى الحياة الاجتماعية الصاخبة مع أصدقائه وزملائه في العمل وسائر أفراد عائلته كبيرة العدد .
وخلال السنوات الثلاث الماضية بدأ التغير يطال أشياء كثيرة في القرية ، بدأت القنوات الفضائية الدينية ( مثل الحياة والحكمة والرحمة ) تحل محل قنوات التليفزيون الأخرى ، فلا يفتح التليفزيون إلا على هذه القنوات ، وأما الراديو فلا يفتح إلا على محطة واحدة هي إذاعة القرآن الكريم ، وانتشر اللون الأسود في الشوارع ، أغلب النساء ارتدين الخمار أولا ، ثم بدأ النقاب يحل محل الخمار ، وكان الحلاقون والسباكون والنجارون ممن يذهبون يوميا إلى المدينة هم رواد هذه الدعوة ، ثم لحق بهم بعض من يصعدون المنابر حتى أن أحدهم – وهو قريبي – هدد زوجته إن لم ترتد النقاب فسيكون مصيرها الطلاق ، فلم يكن أمامها إلا الانصياع والقبول .
وأخذ هؤلاء الدعاة على عاتقهم مسؤولية إنقاذ النساء من نار جهنم ، وإنقاذ الرجال من فتنة النساء وغوايتهن ، ولم تكن تلك النسوة سوى زوجاتهم وأخواتهم وزميلاتهم في العمل وجاراتهم في القرية الصغيرة ، وكلهن نساء كسيرات الجناح ، فكثير منهن تعلمت في المدارس الثانوية ، بل إن بعضهن قد تخرجن في الجامعة ، ومنهن من تزوجت من رجل لم يرتد الجامعة قط ، ومع ذلك فإنهن لا يملكن قرارات مستقلة في بيوتهن ، فهن يخضعن لسلطة أزواجهن خضوعا يماثل خضوع أمهاتهن من الفلاحات ، بل هن أكثر خنوعا في كثير من الأحيان ، فأمهاتهن كن شريكات بحق في الأسرة التي يعشن في كنفها .
ثم كان أن عانت أختي من ضغط مباشر من قريب لزوجها كان قد التحق بجامعة الأزهر ، وأصبح الشيخ الصغير خطيبا يصعد المنابر ويعظ الناس ، واصطنع الشيخ من أمه حقل تجارب ، فلبست النقاب ، بأمر من أبيه الذي رأى من واجبه أن يجعل لابنه كرامة في قومه ، وأمه هي الحلقة الأضعف في سلسلة العائلة كلها ثم كانت أختي هي التجربة التالية ، وزوجها يحبذ ولا يصر ولكنه ، يشترط " إذا لبسته فلن تخلعيه إلى الممات" وأختي عرفت رأيي وأنني أرفض تماما هذا العمل الإجرامي الذي ينتزع الإنسان من وسطه ومحيطه الحيوي ويعزله على هذا النحو البشع إرضاء لنزوة طائفة من البشر لا يفهمون روح الدين ومقاصده ، وإن راحوا كل يوم وغدوا إلى الجامعة الأزهرية العتيدة .
لكن أختي كانت أضعف من أن تقاوم رغبة الشيخ الصغير ، والرغبة الدفينة لدى زوجها في إرضاء الشيخ الصغير ، ثم إنها لم تر بأسا في مخالفة رأي حماها وحماتها ، فرأيهم هو رأي الفطرة والدين الوسطي ، لكن هذا لم يعد مستحبا اليوم، بل هو تساهل ورقة في الدين تؤدي إلى الهلاك حسب رأي الدعاة الجدد في الفضائيات وعلى منابر المساجد .
ولبست أختي النقاب ، وكان قولها "لا أهاب إلا أخي الذي أعرف رأيه" ، واستمرت في طريقها ، وعانت الأمرين من تأثير النقاب على عينيها ، حيث ترتديه لساعات طويلة ، وهي تعاني من ضعف في النظر شديد ولكن المفاجأة التي لم تخطر على البال أن الشيخ الصغير ، كان يحبذ نقابا قاتما ، يكمله قفاز في اليدين ، ووصل إليها رأيه واستنكاره للتجربة الناقصة ، ولا أدري ماذا صنع الشيخ بنقاب أمه ، لكن رأيه وصل إلى أختي وعرفت أنها أرادت أن ترضي هذا الشيخ الصغير على حساب قناعتها لحساب قناعاته هو ، وأنها تضحي بصحتها وسلامة عينيها ، لحساب رؤيته ووجهة نظره هو، ثم كان أن بدأت تراجع المسألة برمتها .
وهنا أخذت حماتها في الإلحاح عليها لخلع النقاب والعودة إلى الحياة اللائقة بالناس المحترمين ، وكان حماها أكثر إلحاحا في طلب التحرر من هذا القيد البغيض ، وكان لدى الرجل قصة يحكيها كلما ذكر النقاب أمامه ، فقد روى أنه رأى بعينيه رجلا يضرب ضربا مبرحا في مركز الشرطة بعد القبض عليه في سيارة أجرة ، حيث هداه تفكيره الشيطاني إلى استدراج امرأة شابة لتجلس على ركبتيه في زحام السيارة ، وهو أمام الناس امرأة منتقبة ، تصنع معروفا ، لكنه كان في حقيقته رجلا بشنبات قد اختبأ تحت النقاب ، وراح يمارس الرذيلة جهارا نهارا وسط الجموع في سيارة الأجرة وفي الريف على مقربة من قسم الشرطة ، والنقاب هو أداته لفعلته الشنعاء .
وأخيرا انتصرت أختي على نفسها هذا الأسبوع ، وتحررت من نقابها بفضل إلحاح حماها الفلاح وزوجته ربة البيت الأمية ، ولكن أيضا بفضل تشدد الشيخ الصغير الذي أراد لنقابها أن يكون سجنا شديد التحصين ، بل قبرا توأد فيه ، ولا تخرج منه أبدا . ولا أزعم لنفسي فضلا في هذا الانتصار ، إلا فضل الاستنكار ، والرفض المطلق طيلة العام الذي سجنت فيه أختي خلف النقاب الأسود البغيض .
5 نوفمبر 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق