السبت، 5 ديسمبر 2009

غرام وانتقام
جاري مهندس بترول ناجح ، وهو يتخذ من الشقة المجاورة لي مجرد استراحة له ، ولذلك لم يكن جاري يخوض معي سوى في الحديث الروتيني والتحية المعتادة ، إلى أن اكتشف كل منا حب صاحبه للكتب ، فبدأنا نتبادل الكتب والمجلات الثقافية والأدبية ، وذات يوم أراد جاري أن يتحفني بشيء من اختياره فأعطاني كتابا صغيرا أنيقا عنوانه "عاشق" .
لم يكن عنوان الكتاب وحده هواللافت للنظر ، بل كان اسم مؤلفه الدكتور "عائض القرني" أكثر إثارة لي ، فقد اشتريت من قبل كتابه ذائع الصيت "لا تحزن" في طبعته المصرية التي نشرتها مكتبة العبيكان . ولكني لم أقرأ الكتاب لأن إحدى قريباتي كانت قد استعارته ، أو لعلي أهديتها إياه ؛ لأنها كانت تشكو من الهم والحزن فعليا فقلت لعل في الكتاب بعض الدواء ، ولم أعرف كم من صفحات الكتاب تصفحت قريبتي ، ولكن الذي تأكدت منه أنها واظبت على تعاطي الأدوية الكيماوية ولم تنقطع عن زيارة طبيبها قط.
تصفحت كتاب "عاشق " فوجدت المؤلف بدأ كتابه بفصل قصير ذكر فيه قريته وما كان فيها من حب وود وحياة اجتماعية هادئة أيام طفولته ، ثم انتقل للحديث عن موضوع عشقه الذي هو القراءة والكتب ! قلت لا بأس بهذا اللون من العشق ولاسيما من سلفي سعودي .
ثم أفرد المؤلف فصلا للقرآن الكريم ، وأتبعه بفصل عن التفسير ، و فصلا آخر عن كتب السنة وفصلا لشروح الحديث النبوي ، ثم فصلا للتاريخ ، وكلها كتب معروفة لا جديد في الحديث الذي أورده المؤلف عنها ، فكلامه أقرب إلى موضوعات الإنشاء المدرسية ، وأخيرا وقعت على بغيتي في الفصلين الأخيرين عن كتب الأدب قديمه وحديثه ، فوجدت المؤلف قد وشى حواشي الكتاب باقباسات متنوعة عن الكتب والقراءة ، وكلها اقتباسات مستعارة طبعا فليس للمؤلف نصيب في ابتداعها ، ولكن الناشر - والحق يقال – أخرج هذه الاقتباسات في شكل جاذب وممتع للعين حقا .
تناول المؤلف في هذين الفصلين عددا من المؤلفين ، و لم ينس أن يصنفهم إلى ثلاثة أصناف : مباح ، ومكروه ، ومحرم ، ووقع في قسم المكروه مؤلفون من طبقة نجيب محفوظ (1911 -2006 م ) أما قسم المحرم المرذول فقد لفت نظري أنه قد حوى ثلاثة هم أساطين الثقافة العربية غير مدافعين وهم أبو عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفى سنة 255 هـ = 869 م) وأبو العلاء أحمد بن سليمان المعري ( المتوفى سنة 449 هـ = 1057م) و طه حسين (1889- 1973م )
أمسكت بكتاب الداعية الدكتور القرني في يدي ، وأخذت أتأمل في موقف المؤلف من الجاحظ وأبو العلاء وطه حسين ، ولماذا هؤلاء الثلاثة ؟ وسألت نفسي عما يجمعهم ، ولماذا جعل من قراءتهم عملا يشين من يقترفه؟ واستدعى ذلك تحريم كتبهم من قبل رجل عاشق للقراءة ! صحيح أن المؤلف لم يذكر لفظ التحريم صراحة من باب اللياقة ولكنه حذر بوضوح من خطر الوقوع في حبائل هؤلاء المؤلفين الثلاثة .
تذكرت موقف الثقافة العربية في عصور تدهورها ، وكيف وصم أبو العلاء بالكفر في كثير من كتابات القدماء نقلا عن مؤلفين بأعيانهم وصموه بهذه الوصمة ، وأبو العلاء متشكك ، ولا يمكن القطع بكفره ، لأنني أعرف له أقوالا تنافي هذه التهمة كقوله :
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أوصح قولي فالخسارعليكما
فهو يراهن على البعث والحساب ، ولا يوافق من يرفضهما ، أو يقطع بإنكارهما .
ثم كان أن طه حسين هو الذي أحيا أدب المعري ، بنفسه وبتلاميذه ، الذين نشروا أعماله و كانت بنت الشاطئ (1912- 1998م ) أبرزهم وأكثرهم اعتناء بشيخ المعرة وأدبه ، أما طه حسين نفسه ، فقد عرفت من أقوال السعوديين - التي يراجعونها الآن ، أو يتراجعون عنها - أن اسمه كان محرما النطق به في بلاد نجد ، وأن أحدهم كان يجادل في مسألة تحريم نطق الاسم قائلا : ماذا إذا نطقت اسم حسين وهو سبط النبي (ص ) أجيب بأنه مشروع النطق باسم حسين ، فيسأل السائل : وماذا لو نطقت بكلمة طه وهي اسم للرسول نفسه وورد في القرآن ؟ فيكون الجواب هذا أيضا جائز ، وإذا فقد كان التحريم يطال الكلمتين إذا نطقتا معا ؛ لأنهما تشيران إلى شخص هو هذا الكاتب الذي أحدث في العربية المعاصرة لغة وأدبا وثقافة ما لم يحدث مثله أحد آخر خلال القرن العشرين ، وأما الجاحظ فهو رائد عظيم أعلى من شأن العقل وتلك كما يبدو جريمته التي لا يغفرها له الدكتور القرني وأتباعه من العرب المعاصرين .
ثم تأملت في موقف الداعية السعودي فوجدت أن موقفه متسق تماما مع منطق السلفي العتيد الذي يرفض العقل لمصلحة النقل ، ويرى الاجتهاد ابتداعا غير مقبول " فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" كما يقول خطباء المساجد كل يوم وكل ساعة ، في مصر كما في السعودية ، وفي اليمن كما في المغرب . وقد اختار المؤلف ممثلي العقل في الثقافة العربية قديما وحديثا ، ليحرم قراءة كتبهم ، ووفق في ذلك الاختيار ، ولم يذكر المؤلف ابن رشد ( توفي 595 هـ) طبعا ، فلو ذكره لكنا قرأنا كلمة التحريم واضحة لا لبس فيها ، لأن السلفية لا تتردد في وصم فلاسفة الإسلام بالكفر البواح ولا تبالي .
ثم قلت لنفسي هل غش المؤلف قراءه باستخدام هذا العنوان البديع ؟ ووجدت أن ذلك لم يكن إلا عملا مشروعا فمن حق المؤلف أن يروج لكتابه بعنوان لافت مثير كما صنع من قبل مع كتابه " لا تحزن " الذي وزع مئات الألوف من النسخ في البلدان العربية . وقلت أخيرا هل له الحق في تحذير القراء من قراءة أساطين الثقافة العربية وهل يكون بذلك قد غشهم ؟ ووجدت أن هذا الأمر أيضا لم يكن صحيحا ؛ لأن قراء الدكتور القرني الذين يعرفهم هو وقد جربهم تماما من قبل يقبلون منه النصيحة قي القراءة كما يقبلون الفتوى في الدين وخاصة إذا ما بلغهم أنه يحب القراءة بل يتعشقها !
كانت آخر مهمة علي إنجازها هي إعادة الكتاب لصاحبه ، وفكرت في الوسيلة التي سأبلغه بها عن استيائي الشديد ورفضي لما جاء في الكتاب ، وزعم الكاتب أنه عاشق للقراءة بينما هو يكره المؤلفين الكبار، وامتلك الجرأة لكي يشنع عليهم ويحذر من أفكارهم ، ولكني لم أكن أرغب في إحراج جاري فركنت الكتاب وقلت أدسه وسط مجلاته وكتبه ولا أعلق على الموضوع .
لكن الدكتور القرني نفسه كان مصرا على فتح الموضوع مرة أخرى ، فقد ظهر في تليفزيون قناة العربية مع الدكتور تركي الدخيل ، و صرح بأنه ينوي كتابة رواية ، فسأله الدخيل ، وهل تقرأ الروايات ؟ قال القرني أنا أتغير ، وقد قرأت بعض الروايات ، وأنا معجب بروايات المؤلف نجيب محفوظ ، ثم أردف قائلا ونجيب محفوظ أبرع مني في كتابة الرواية ، فاستنكر تركي هذه الجرأة قائلا : ولكنك لم تكتب روايات!! . قال القرني مبتسما "حينما أكتبها يعني"!
5 ديسمبر 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق