أهمية أن نتعلم يا ناس
كانت الصفوف متراصة خلف الإمام في صمت مهيب ، والإمام يرتل الآيات في خشوع كما يفترض أن يكون ، وفجأة رنّ صوت هاتف محمول رنة سريعة ثم سكت ، واستكمل الإمام وخلفه المصلّون صلاتهم ، ولم يكن هناك ما يدعو إلى تذكر الحادثة الصغيرة بعد الصلاة ، إلا أن الإمام لم يكن مثل سائر المصلين ، بل كانت له قرون استشعار ، يعلم بها ما خفي عنهم ، فأمسك بالميكروفون وبدأ خطبة جديدة بعد الصلاة ، فقال : إن الأرقام التي تتصل هكذا فجأة تكون في الغالب من جهة معلومة ، وهذا الرقم الذي رنّ أثناء الصلاة هو رقم لدار تتّجر في الجنس ، وهم يتصلون لاصطياد الناس .
وبينما كان الإمام يكمل الشرح حول الدعارة وأرقام تليفوناتها كنت أبتعد عن المكان مستعيذا بالله من شرور بعض المساجد وما تجره على مصليها من آثام ، وقررت أن أضحي بالصلاة في هذا المسجد الكبير ذي الموقع المميز، فلعل المساجد الأصغر والأبعد موقعا أن تكون بمنأى عن عيون الأشرار الذين يغررّون بالمصلين .
وبعد عدة أسابيع واعدني صديق لي بأن نتقابل عند ذلك المسجد فاضطررت أن أصلي هناك مرة أخرى ، ولسوء حظي كان الخطيب نفسه يقوم بالخطبة ، وكان موضوع الخطبة هو الدّعارة أيضا ، فقال الخطيب إن شاطئ تلك المدينة التي نعيش فيها موضع شبهة وأن الشبان والشابات يذهبون إليه لممارسة الرذيلة ، وأن المسجد نفسه مهدد بغزو هؤلاء الشبان والشابات ، فحرم المسجد حوله سور وهذا السور مفتوح ويسمح للراغبين في الجلوس على ذلك الجدار بأن يتحدثوا ويقزقزوا اللب والسوداني ، أو يأكلون الساندويتشات ، وهذا يغري بحديث آخر منتظر من هؤلاء الآثمين فعلينا ألا نمكّن لهم ، واقترح الإمام على الغيورين من المسلمين أن يسهموا في مشروعه الذي ينوي تنفيذه ، وهو إقامة سور حديدي حول المسجد حتى لا يجد الآثمون ملاذا آمنا في جوار المسجد ، قلت الحمد لله ، كان مصيرنا الفضيحة لو أمسكوا بنا أنا وزوجتي وأولادي ، فقد سبق لنا أن جلسنا على ذلك السور وأكلنا الساندويتشات هناك .
ومرت شهور واضطرتني الظروف للصلاة في ذلك المسجد للمرة الثالثة ، ووجدت أن الإمام لم ينفذ مشروعه الهندسي ، فبقي سور المسجد حائطا واطئا يجلس عليه كثير من المصلين انتظارا لنهاية الخطبة الطويلة المملة ، ثم يدخلون إلى المسجد لأداء الصلاة ، ففعلت مثلهم ، ولكني تململت لما أسمع ، كان موضوع الجنس يشغل الخطيب مايزال ، وكان ما يشغله هو المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت والتي يروج لها أعداء الإسلام ، و يريدون جرّ المسلمين إلى هذا المستنقع ، ثم أخذ الخطيب يشير إلى مجال محدد من مجالات العمل في تلك المواقع ، قال : إن زنا المحارم هو هدف من أهداف مواقع الإنترنت الإباحية ، وأخذ الخطيب يكرر على مسامع المصلين وكثير منهم أطفال دون الثامنة عشرة أن الولد يمارس الجنس مع أمه ومع أخته ، وأن هذا الجنس موجود وشائع وعلينا أن نحذر منه ، عند ذلك الحد لم يكن في مكنتي أن أواصل الانتظار خارج المسجد ، وقلت الحمد لله أنني لم أصطحب ابني معي ، ثم غادرت المكان عائدا إلى المنزل وهناك صليت الظهر أربع ركعات وأنا أحاول أن أنسى أن اليوم كان يوم جمعة ، ثم جلست أتأمل في موقف هذا الرجل المسلم الذي يدافع عن الدين والأخلاق بدأب وإخلاص ، حتى أنه يمسك في الموضوع الواحد ويقول ويكرر فيه على هذا النحو مصمما على فضح الزيغ والفجور ، بل هو يحاول أن يقيم سورا حديديا عاليا حول المسجد لمنع الناس من الاقتراب منه مظنة أن يكونوا من الفجار الذين يحاربهم في خطبه المتواصلة !
وسألت نفسي لماذا وجدت أنا في حديث هذا الخطيب مسلكا شائنا ؟ واعترضت عليه عمليا بأن امتنعت عن الصلاة خلفه ، بينما مئات المسلمين يواظبون على الصلاة خلفه ،ويصطحبون أولادهم لسماع خطبه المتواصلة حول الجنس بأنواعه والدعارة بأشكالها ، وإباحية الإنترنت وزنا المحارم ؟
لقد تكررت على مسامعي هذا الأسبوع مشاهد حكاها أبنائي وحكتها زوجتي ، وقد وجدت فيها ما يتشابه مع فعلة الإمام ، وكلها مما يدعو إلى الأسف ، بل إن بعضها يكاد يخرج الحليم عن حلمه .
عادت ابنتي الصغرى من المدرسة الأزهرية - التي يسمونها المعهد - فدخلت من باب البيت مسرعة إلى الحمام ، وحين خرجت كان وجهها مليئا بالغضب والكآبة ، فلما سألتها : مالك ؟ انهمرت دموعها وقالت " لقد منعني من دخول الحمام"
قلت من ؟ قالت الأستاذ ، قلت : أي أستاذ ؟ قالت : أستاذ القرآن . ثم أردفت وقد ضربني بالخرطوم أيضا ، ووضع حذاءه على المقعد الذي أجلس عليه ودفعني للداخل دفعة عنيفة .
تملكني الغضب وقلت لابد من الذهاب إلى المدرسة لتهديدهم بأننا سنبلغ النيابة العامة . وعدت أسأل ابنتي عما دفع مدرس القرآن لضربها بخرطوم الكهرباء فقالت : إنني كنت أسأل زميلتي عن الصفحة التي نقف عندها ، وأنا لم أقصر قط في الحفظ حتى يضربني .
ولكن كيف منعك من دخول الحمام ، وهل منعك أنت وحدك ؟
قالت إنه يرفض نهائيا أن تذهب أي بنت أو أي ولد إلى الحمام ، وأنا كدت أبول في ملابسي وعادت للبكاء . تحدثت فورا تليفونيا مع مدير الإدارة التعليمية التابعة لها المدرسة فطلب مني الرجل كتابة شكوى ضد المدرس ، ثم أردنا أن نتريث ، فذهبت زوجتي إلى المدرسة لتجرب حلا وديا قبل كتابة شكوى قد توقع بالمدرس ضررا بليغا لا نريده ، وعادت زوجتي لتخبرني أن مدرس القرآن قد أصابه رعب حقيقي من فكرة الشكوى في حقه ، وأنه شاب لا يبدو من هيئته إلا رقة الحال . ثم عادت ابنتي من المدرسة لتقول إن المدرس قد صرّح لجميع الأولاد والبنات بالذهاب إلى الحمام فذهب من يرغب ومن لا يرغب .
ولم نكد نفرغ من مشكلة ابنتي الصغرى مع مدرس القرآن حتى عاد أخوها حانقا من مدرسته الإعدادية العامة ليقول : ماذا أصنع وقد اضطرنا مدرس التاريخ أن نكتب في كراساتنا أن بحيرة ناصر بحيرة مالحة ؟ فسألت ابني وما الذي تعرفه أنت عن بحيرة ناصر؟ قال أنا واثق أنها بحيرة عذبة ، ولكن المدرس فعلها مثلما اعتاد في كل مرة أن يزعم أنه يمزح ، ويقول في الفصل معلومات مشوّهة ومغلوطة ، ولكننا كتبنا خلفه ما أملى علينا فصارت بحيرة ناصر بحيرة مالحة .
إن عشرات الوقائع مما يحكيه أولادي وتحكيه زوجتي أو يحدث معي أنا في عملي - وكلها أفعال تصدر عن أفراد مسئولين في مجال التعليم ، وفي مجال الدعوة - لا يبدو أنها مما يجب أن يمر وأن نتهاون في شأنه أبدا . ولابد أن نكون واثقين أن ما قد نسميه النوايا الحسنة لأي واحد من هؤلاء الذين يخطبون في المساجد أو يدرّسون في مدارس الأزهر أو المدارس العامة ، ما هو إلا جرائم حقيقية يرتكبها أناس ينقصهم التدريب الحقيقي ، ودعوني أقول إن هؤلاء الأشخاص لم يتعلموا أبدا أصول العمل الذي أسند إليهم ، فخطيب المسجد لا تحكمه قواعد للعمل منضبطة ، بل يكفي أن يكون حافظا للقرآن ولبضع عشرات من الأحاديث النبوية ، ليركب المنبر ويرتكب الحماقات ولا أحد يحاسبه ، ومدرس القرآن يكفيه أنه يحفظ القرآن لكي يظن نفسه نبيا ، ولم يدرّبه أحد على أساليب تربوية لمعاملة الأطفال ، وكل ما يملكه لنا رئيسه هو توقيع الجزاء الإداري عليه ، وأما مدرس التاريخ المذكور فهو شخص معاق كما علمت ، ولعل الكثيرين من أهالي التلاميذ قد ترددوا في تعنيفه أو تقديم الشكوى ضده حتى لا يكونوا غير رحماء ، والحق أن غير الرحماء هم الذين وضعوه في مكان غير مناسب لقدراته ، ولم يدربوه كما ينبغي لأداء مهمته التعليمية وتحمل المسئولة أمام التلاميذ .
على أن ما تحكيه زوجتي عن زميلتيها في المدرسة الثانوية ، هو من أشنع السلوكيات وأبغضها على الإطلاق ، إذ دأبت المعلمتان المسلمتان ، وإحداهما منتقبة ، والأخرى محجبة بغير نقاب ، أن تتحينا الفرصة في غياب زميلتهما القبطية للسخرية من العقيدة المسيحية ، وتقول زوجتي إنهما على خلاف في كل شئ ما عدا هذا العداء للعقيدة المسيحية والسخرية منها في غياب زميلتهما ، فإذا حضرت الزميلة القبطية رحبتا بها وتهللتا لها في نفاق ظاهر .
إنه التعليم ، التعليم المصري حاليا الذي يقوم على التلقين ، والحفظ والاستظهار ، ويفتقد للتحليل والنقد ، هذا التعليم هو أحط أنواع التعليم كما يقول علماء التربية ، فهذا التعليم يدفع للقسوة ، والسلوك الشائن الذي يلبس لبوس الوعظ والإرشاد ، ويدفع للنفاق ويدفع للجبن ، وإلى كل ذلك الذي نحن فيه من فقر روحي وثقافي ، ومن هنا كانت الحاجة إلى تعليم حق ، في المدرسة وفي الجامعة على السواء .
إن المسلك الشائن الذي يخضع له الناس ، ولا يلتفتون إلى خطورته ، فلا يقاومونه ولا يعترضون عليه ، إنما هو لون من القصور الذي يدعوه المثقفون نقصا في الثقافة ، ومقال الدكتور يوسف إدريس الشهير " أهمية أن نتثقف يا ناس " كان صرخة مبكرة في هذا الاتجاه ، وبعد مرور عشرين عاما على مقال يوسف إدريس ، لم تعد القضية أن نتثقف ، بل أن نتعلم ، نعم هذا المسلك الشائن والخضوع له الذي هو مسلك شائن مثله ، ليس إلا نقصا في التعليم ، في مناهجه وأدواته ووسائله ، وفي طرق التدريس ، ونقص في فلسفة التعليم ومحتوى المناهج ، وتدريب المدرسين الجامعيين وغير الجامعيين ، وهو نقص مريع ندفع الآن ثمنا له أفدح مما ندفع ثمنا لنقص إنتاجنا من الغذاء .
26 ديسمبر 2009
الأحد، 27 ديسمبر 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق