السكون والحركة
فجأة توقفت عربة جيب ونزل منها ضابط برتبة كبيرة ، كانت ملابس الضابط نظيفة للغاية ، وأزرار سترته الميري الصفراء تلمع في ضوء الشمس ، وأما حذاؤه فقد كان أسود نظيفا لامعا ، نزل الضابط من العربة ولم ينظر أين يضع قدمه ، وإذا به يكبو على الأرض ويكاد يلامس بوجهه التراب ، لكنه تماسك ووقف ، إلا أن بنطلونه عند ركبته اليمنى كان قد لمس الأرض فعلق به من ترابها ما شوه أناقته وأطفأ لمعان البنطلون ، في هذه اللحظة تحديدا كان أحد المواطنين واقفا يكاد يلامس جسد الضابط بعد أن اعتدل واقفا ، فاقترب المواطن من أذن الضابط يريد أن يسر له بشئ ، لكن الضابط نهره في عنف وأبعده بيديه قائلا "جاتكو نيلة فـ مدارسكم" ، وابتعد الرجل متجنبا ثورة الضابط الذي أخذ يتابع الجنود وهم يركّبون خرطوم الحريق في حنفية الإطفاء .
كنت أمرّ من هذا الشارع في طريقي لإنجاز مهمة في مبنى حكومي قريب وعدت إلى المكان بعد دقائق لم تتجاوز ربع الساعة ، لكن لدهشتي لم أجد الجنود ولا سيارة الإطفاء ولا الضابط ، ولا ذلك الأفندي الذي زجره الضابط ، فضلا عن المواطنين الذين كانت جمعتهم صفارة سيارة الإطفاء ، وكان المكان مبللا بالماء فحسب ، فسألت أحد المارة عن الحريق الذي أطفأوه ماذا كان وما سببه ، قال الرجل : " في الحقيقة لم يكن هناك حريق ، كانت مجرد كومة ورق أحرقها بعض العاملين في مدرسة الصنايع بجوار المدرسة" ساعتها استعدت موقف الأفندي الذي أراد أن يتحدث إلى الضابط ، إنه لابد كان ناظر مدرسة الصنايع أو وكيلها أو أحد معلميها أراد أن يخبر الضابط بأمر الأوراق ، وأن المسألة لم تكن تستدعي كل هذا العناء فلم يكن بالمدرسة حريق ، ولم يكن الأمر يحتاج لسيارة الإطفاء ولا لثورة الضابط الذي اتسخت ملابسه وكاد يسقط أرضا على وجهه .
ذكرتني هذه الحادثة بقصة مشهورة لنجيب محفوظ كتبها في مطلع حياته الأدبية هي قصة "همس الجنون" والقصة تحكي عن رجل أصيب بالجنون مدة وأدخل المستشفى للعلاج ، والكاتب يستعيد تاريخ الرجل فيصفه لنا قائلا " كان إنسانا هادئا أخص ما يوصف به الهدوء المطلق ، ولعله ذاك ما حبب إليه الجمود والكسل ، وزهده في الناس والنشاط " وكانت حالة الجنون هي بالتحديد انتقال من السكون إلى الحركة ، كان الرجل ساكنا سكونا بالغ التأثير فقد كان يستلذ لذة كبرى بأن يجلس في مكان منعزل على الرصيف أمام المقهى فيشبك راحتيه على ركبتيه ويلبث ساعات متتابعات جامدا صامتا ، ثم عنّ له أن يتحرك فإذا حركته حالة عنف بالغ حتى آذى نفسه والآخرين فقد أخذ يمارس نشاطا مكثفا من التجارب الخطيرة حيث أخذ يصفع أقفية الناس ويبصق في وجوههم ويركلهم في بطونهم وظهورهم دونما سبب وكان هؤلاء الذين يعتدي عليهم يردون له اعتداءه الصاع صاعين ، ولكن العجيب أنه لم يكن يحزن لما يناله من الأذى ولا ارتدع لما أصابه من ضرّ ، بل كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه ، وأخيرا انتهى به الحال إلى أن تخلص من ملابسه في الشارع قطعة قطعة ، فلما بدا عاريا كما خلقه الله ، قهقه ضاحكا واندفع في سبيله .
إن ما دفعني لرواية القصتين والربط بينهما ، قصة الضابط في غضبه وتشنجه ، وقصة المجنون في همسه المقيم ثم عنفه البالغ ، هو فكرة السكون والحركة ، فالحركة لا تكون عنيفة مدمرة إلا إذا كانت جنونا، وكذلك السكون الطبيعي لا يكون همسا مطبقا إلا إذا كان نوما هو موت أو يشبه الموت ، فحركة المتمهل متزنة ، وحركة الماشى متزنة ، وحركة العدّاء متزنة ، لكن حركة المريض والمصعوق والخائف ليست متزنة ، فحركة المصعوق عنيفة لأنها ليست تحت السيطرة العصبية الطبيعية ، وحركة المريض بطيئة عاجزة تحت وطأة الألم والمعاناة والعجز ، وأما حركة الخائف فعنيفة مرتبكة يحكمها قانون الخوف .
ولو تأملنا في حال المجتمع والدولة في مصر لوجدنا حال الحركة والسكون فيهما تشبه حال الضابط في قصتنا ، في كثير من الأحيان ، وفي بعض الأحيان هي أقرب إلى حال المجنون في قصة نجيب محفوظ ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن نحصيها ، ففي التعليم وفي السياسة وفي التربية كما في الرياضة والعلم ، بل حتى في الحرب نحن نسكن سكون الموت ، ثم ننتفض انتفاضة المهووس ، وأحيانا نتحرك حركة شديدة العنف ، فيكون رد الفعل حركة مضادة أشد عنفا ، أردنا للجامعة أن تكون بلا دين وزعمنا أن دينها سيكون هو العلم، فانتهى بنا الأمر أن امتلكنا عشرين جامعة ليس فيهم علم ولا يعرفون إلا الدين ، و كان لدينا سكون قاتل في التعليم من حيث أعداد المتعلمين المحدودة قبل الثورة أعقبتها حركة مجنونة للتعليم ، فقد أردنا أن نعلم كل الناس وانتهى بنا الأمر أننا لم نعد نعلم أحدا ، قررنا أن نحل الأحزاب فكانت نوعا من وقف الحركة ، سكونا مميتا ، فأعقبها حركة عنيفة لتغيير المجتمع الكافر بالدين ، وأردنا لمجلس الأمة أن تكون أغلبيته للعمال والفلاحين ، فانتهى الأمر إلى مجلس للشعب أغلبيته للحرامية والنصابين ، كنا اشتراكيين أوقفنا كل نمو للمجتمع المدني ، فأسكناه القبور ، ثم تحولنا إلى "انفتاح السداح مداح" فكانت حركة الاقتصاد جنونا مطبقا ، نمنا سنينا لا نعرف الحروب وغابت عنا فكرة الصراع بين الأمم والشعوب وهي من سنن الله في الكون ، فلما حاربنا انزعجنا من الحرب فكانت فكرتنا عنها هوسا وجنونا .
وإذا أردنا أن نفلسف المسألة كما يفعل بعض النقّاد لقلنا إننا نتحرك على إيقاع الشعر ، وهو إيقاع رتيب منتظم ، فسيرنا رتيب ممل يشبه أن يكون سكونا بل موتا ، ونرفض أن نتحرك على إيقاع النثر وهو متنوع وثري ومرن يشبه حركة الحياة نفسها ، فنحن في انتظار أن ننتقل من زمن الشعر إلى زمن النثر، ساعتها سنكون قد انتقلنا من رتابة السكون المميت والحركة العنيفة المجنونة ، إلى حركة في الحياة متزنة وعاقلة.
16 يناير 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق