شحاذون في تايلاند
بعض الناس يحبون أن يصموا يوم الجمعة بأن فيه ساعة نحس ، قلبا للمقولة المحفوظة "إن في يوم الجمعة ساعة إجابة" ، ولقد كانت ساعتي بعد صلاة الجمعة اليوم من قبيل النحس الذي لا يتوقعه الإنسان ، أو قل لا يحب أن يكون من نصيبه ، وخاصة بعد صلاة الجمعة.
اعتدنا في الريف أن نخرج من المسجد يوم الجمعة فنقف وقفة قصيرة في انتظار أصدقاء لنا قد نكون غبنا عنهم أو غابوا عنا أسبوعا أو نحو ذلك ، فنتبادل التحية وننصرف إلى منزل أحدنا أو نتفق على اللقاء بعد ذلك ، لكن يبدو أن زمن الريف قد ولى وراح ، وهذا زمن المدينة قد حضر .
وقفت أشتري جريدة من بائع الصحف أمام المسجد ، فإذا رجل يناديني فنظرت نحوه فلم أتبين ملامحه ، ثم اقتربت منه فأصابتني الدهشة بل الذهول ، كان الرجل يجلس متكوما على سور واطئ يحيط بالمسجد ، قد وضع على كتفه عباءة بنية اللون ، واعتمر طاقية بيضاء مخرّمة مما نراه على رءوس المسلمين من شرق آسيا ، فنظرت إليه ، غير مرحّب ، و قلت :
- ما الذي جاء بك ؟ ألست في تايلاند؟
ابتسم الرجل في برود وقال :
- عدت من يومين
- قلت : وهل عودتك نهائية ؟
- قال : لا ، أنا في أجازة لمدة شهرين ، وأريدك أن تعطيني ساعتين أقزقز فيهما.
- قلت وماذا تريد أن تدرّس ؟ الحقيقة أني كنت أصحح أوراق طلابي قبل أن أحضر للصلاة ، ووجدت الطلاب لا يحسنون القراءة والكتابة ؟ فماذا ستدرّس لهم ؟
- قال : الآفة في النقل الآلي ، كما يحدث هناك في تايلاند ، جميع الطلاب ينقلون آليا إلى الفرقة التالية.
- قلت : ما علينا من تايلاند ، فالحال مختلفة ، وهؤلاء يدرسون لغة أجنبية . أما هنا فأنا أقول لك إنني لا أعمل في هذه الجامعة .
- قال : أعطني ساعتين في جامعتك وأنا آتي إليك زاحفا على ركبي!
شعور بالقرف انتابني وأنا أرى الرجل أمامي ، وأتحدث معه فيما أراد هو أن يتحدث فيه ، لكن هذا الشعور كان أقل كثيرا في تأثيره من شعوري بالتشاؤم ، تشاءمت من رؤية أستاذ اللغويات العربية بجامعة المنصورة تشاؤما حقيقيا ، برغم أنه ليس جارا لي في المسكن ، ولا هو زميل لي في العمل ، ولا سبق له أن أضرّ بي في شئ ، أو نفعني بشئ ، ومع ذلك تشاءمت من رؤيته على غير عادتي ، فأنا غالبا لا تشغلني فكرة التشاؤم والتفاؤل .
وانصرفت عائدا إلى المنزل وأنا أتفكر فيما جرى ، وأتساءل لماذا هذا الشعور بالتشاؤم ؟ أليس الأنسب أن أشعر بالغضب من رجل يفترض فيه العلم والعقل والكرامة ؟ ولكنه بدا أمامي ممتلئا عن آخره جهلا وسفاهة ومهانة !
ثم اجتهدت أن أفسر الأمر برؤية أكثر عمقا ، وكانت النتيجة كالتالي:
" أنا متشائم من رؤية هذا الرجل لأنه أستاذ جامعي ، وأنا أستاذ جامعي ، وهو يعمل في حقل الدراسات العربية ، وأنا أيضا أستاذ للأدب العربي ، وهو قد بلغ سن التقاعد ، وأنا لو قدر لي أن أعيش فسوف أبلغ سن التقاعد أيضا ، ثم هو قد تعاقد على العمل في جامعة إسلامية في تايلاند ، وأنا أيضا قد أفكر في العمل في الخارج ، ثم ها هو ينبئني - بلسان الحال ، لا بلسان المقال - أنه قد مارس "الشحاتة" في تايلاند ، فهل آمن على نفسي ألا أفعل مثلما فعل ، وهل يحق لي أن أتجاهل هذا المصير المؤلم ، الذي لا يدعو أي عاقل إلى التفاؤل؟!"
الجمعة 5 مارس 2010 م
بعض الناس يحبون أن يصموا يوم الجمعة بأن فيه ساعة نحس ، قلبا للمقولة المحفوظة "إن في يوم الجمعة ساعة إجابة" ، ولقد كانت ساعتي بعد صلاة الجمعة اليوم من قبيل النحس الذي لا يتوقعه الإنسان ، أو قل لا يحب أن يكون من نصيبه ، وخاصة بعد صلاة الجمعة.
اعتدنا في الريف أن نخرج من المسجد يوم الجمعة فنقف وقفة قصيرة في انتظار أصدقاء لنا قد نكون غبنا عنهم أو غابوا عنا أسبوعا أو نحو ذلك ، فنتبادل التحية وننصرف إلى منزل أحدنا أو نتفق على اللقاء بعد ذلك ، لكن يبدو أن زمن الريف قد ولى وراح ، وهذا زمن المدينة قد حضر .
وقفت أشتري جريدة من بائع الصحف أمام المسجد ، فإذا رجل يناديني فنظرت نحوه فلم أتبين ملامحه ، ثم اقتربت منه فأصابتني الدهشة بل الذهول ، كان الرجل يجلس متكوما على سور واطئ يحيط بالمسجد ، قد وضع على كتفه عباءة بنية اللون ، واعتمر طاقية بيضاء مخرّمة مما نراه على رءوس المسلمين من شرق آسيا ، فنظرت إليه ، غير مرحّب ، و قلت :
- ما الذي جاء بك ؟ ألست في تايلاند؟
ابتسم الرجل في برود وقال :
- عدت من يومين
- قلت : وهل عودتك نهائية ؟
- قال : لا ، أنا في أجازة لمدة شهرين ، وأريدك أن تعطيني ساعتين أقزقز فيهما.
- قلت وماذا تريد أن تدرّس ؟ الحقيقة أني كنت أصحح أوراق طلابي قبل أن أحضر للصلاة ، ووجدت الطلاب لا يحسنون القراءة والكتابة ؟ فماذا ستدرّس لهم ؟
- قال : الآفة في النقل الآلي ، كما يحدث هناك في تايلاند ، جميع الطلاب ينقلون آليا إلى الفرقة التالية.
- قلت : ما علينا من تايلاند ، فالحال مختلفة ، وهؤلاء يدرسون لغة أجنبية . أما هنا فأنا أقول لك إنني لا أعمل في هذه الجامعة .
- قال : أعطني ساعتين في جامعتك وأنا آتي إليك زاحفا على ركبي!
شعور بالقرف انتابني وأنا أرى الرجل أمامي ، وأتحدث معه فيما أراد هو أن يتحدث فيه ، لكن هذا الشعور كان أقل كثيرا في تأثيره من شعوري بالتشاؤم ، تشاءمت من رؤية أستاذ اللغويات العربية بجامعة المنصورة تشاؤما حقيقيا ، برغم أنه ليس جارا لي في المسكن ، ولا هو زميل لي في العمل ، ولا سبق له أن أضرّ بي في شئ ، أو نفعني بشئ ، ومع ذلك تشاءمت من رؤيته على غير عادتي ، فأنا غالبا لا تشغلني فكرة التشاؤم والتفاؤل .
وانصرفت عائدا إلى المنزل وأنا أتفكر فيما جرى ، وأتساءل لماذا هذا الشعور بالتشاؤم ؟ أليس الأنسب أن أشعر بالغضب من رجل يفترض فيه العلم والعقل والكرامة ؟ ولكنه بدا أمامي ممتلئا عن آخره جهلا وسفاهة ومهانة !
ثم اجتهدت أن أفسر الأمر برؤية أكثر عمقا ، وكانت النتيجة كالتالي:
" أنا متشائم من رؤية هذا الرجل لأنه أستاذ جامعي ، وأنا أستاذ جامعي ، وهو يعمل في حقل الدراسات العربية ، وأنا أيضا أستاذ للأدب العربي ، وهو قد بلغ سن التقاعد ، وأنا لو قدر لي أن أعيش فسوف أبلغ سن التقاعد أيضا ، ثم هو قد تعاقد على العمل في جامعة إسلامية في تايلاند ، وأنا أيضا قد أفكر في العمل في الخارج ، ثم ها هو ينبئني - بلسان الحال ، لا بلسان المقال - أنه قد مارس "الشحاتة" في تايلاند ، فهل آمن على نفسي ألا أفعل مثلما فعل ، وهل يحق لي أن أتجاهل هذا المصير المؤلم ، الذي لا يدعو أي عاقل إلى التفاؤل؟!"
الجمعة 5 مارس 2010 م
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ردحذفسُعدت بقراءة موضوعاتك ويسعدني أكثر أن نتعارف بل يشرفني هذا التعارف فأنا مقيم بدمياط الجديدة وأعمل بها
ولدي شعور بأني أعرف هذا الرجل الملتحف بعباءته فقد تخرجت في تربية دمياط وإن صدق حدثي فهو هو