الأحد، 31 أكتوبر 2010

فلسفة المرونة

كنت أعد المرونة ميزة نسبية ؛ لأنه لايستطيع كل إنسان أن يتحلى بالمرونة ، إلى أن قرأت العبارة التالية " تقلل المرونة من الفضيلة ، وتزيد من الرذيلة" فأخذت ببلاغتها ، ليس فقط لما تحويه من مظاهر البلاغة التقليدية حيث المقابلة بين الفضيلة والرذيلة وكذلك بين تزيد وتنقص، ولكن لأني اكتشفت أن قوتها العارمة تأتي من استخدام كلمات من حقل الطبيعة أي أنها قابلة للقياس ، حيث أن الكلمتين : تزيد وتنقص تدلان على شئ يمكن معرفة مقداره ، بالزيادة أو النقصان ، أخذت أراجع بعض المواقف التي مررت بها في حياتي ، فوجدت أن العبارة صحيحة تماما ، ثم انتقلت لتحليل المواقف العامة في حياتنا اليوم فإذا بي أجد العبارة صادقة في تشخيص حالنا وقياس مدى انخفاض مستوى الفضيلة أو الرذيلة وارتفاعه في حياتنا اليومية . وقد كشفنا عن ذلك فعلا إذ يقول المثل الشعبي "زمته أستك" أظنها واحدة من العبارات التي تجسد مرونة الأمانة إلى حد قبول الحرام والسحت ، واستساغة نهب الحقوق.
مررت بذاكرتي على كثير من الأحداث التي عشناها في بلادنا خلال السنوات الماضية ، وهي أحداث ومواقف سياسية واقتصادية وقانونية وفكرية ، فوجدت أن المرونة كانت هي الطابع العام الذي اتخذته كثير من الأطراف ، وأن مواقف المرونة هذه لم تكن إلا رذائل سافرة ، يمكن الإمساك بها وقياس مدى بعدها عن الفضيلة كما تقول العبارة البليغة .
خذ مثلا موقف مصر من إسرائيل ، ومن حربها على غزة ، هل كان موقف الإدارة المصرية إلا تجسيدا للمرونة ( المطاطة إلى أقصى حد ) فماذا كانت نتيجة تلك المرونة ؟ إنها ولا شك أنتجت إحساسا بالعار انتاب كل مصري ومصرية مسلما أو مسيحيا كبيرا أو صغيرا ، فلاحا أو أفنديا ، هذا الإجماع لم يكن إلا مقياسا واضحا يقاس به الفرق بين مقدار الرذيلة التي ارتكبت ومقدار الفضيلة التي انتهكت .
وذكرتنا الدكتورة نوال السعداوي في مقال نشرته "المصري اليوم " بمواقف الوزراء من القضايا الخطيرة في شؤون الوطن ، وكيف أنهم يتسمون بالمرونة التي تجعلهم يقبلون بما لا ترضى عنه ضمائرهم ، ثم يعودون بعد سنوات ليقولوا لنا إن ذلك كان خطئا محضا ، وأنهم كانوا يعارضونه أثناء وزارتهم ، وفي مقالها تسأل نوال السعداوي في قسوة معهودة منها ، لماذا لم تستقل الدكتورة ميرفت تلاوي من وزارة التأمينات حينما أصرت حكومة عاطف عبيد على نهب أموال المعاشات بغير رضاها ؟
أنا شخصيا من المعجبين جدا بشخصية مرفت تلاوي ، وكنت ربما ظننت أنها تصلح لمنصب رئيس وزراء مصر ، ومع ذلك فقد انتبهت إلى القيمة الراقية التي تنادي بها نوال السعداوي : أن تكون مرنا إلى هذا الحد فأنت في جانب الرذيلة و أنت بعيد جدا عن الفضيلة.
وقضية الانتخابات وما أحيط بها من سجال ومواقف كلها كانت رهانا من الحكومة وحزبها الحاكم على أن المعارضة المصرية مرنة بما فيه الكفاية لكي تقبل بخوض الانتخابات التشريعية، وصدقت توقعات الحكومة ، وتسابق الإخوان المسلمون وحزبا التجمع والناصري للشرب من ذلك الماء الآسن ، ثم استجمع حزب الوفد شجاعته وقال بكل فخر نقبل بالمرونة .
إن الأمثلة التي نستعرضها هنا ليست إلا نقطة في بحر مما يجري في بلادنا ، فكل مواقف المحافظين والوزراء ورؤساء الجامعات وكبار المسؤلين والصحفيين لم تكن إلا تجسيدا لهذه الفلسفة ، فلسفة المرونة ، ومواقف رجال الأعمال الذين يمتلكون القنوات الفضائية ، ويلتزمون بما تمليه الحكومة عليهم ، هي فلسفة المرونة ، وهي تصدم الرأي العام وتثير السخرية ، وأحيانا تصبح عنوانا على الخزي ، لأنها مقدارمن الرذيلة ضخم جدا ، بل يمكن تخيله كأنه جبل المقطم لا تخطئ العين رؤيته .
ومع ذلك فأنا ما زلت على قناعة أن المرونة لم تكن إلا فلسفة فرضت على المتنفذين في الشعب المصري بعمومهم ، و قد رضوا بها ، إلا قلة منهم قابضة على الجمر ، لم يؤمنوا بـ "المرونة" فلسفة في حياتهم .
لو كان جمال عبد الناصر يرضى بالمرونة لما أصبح جمال عبد الناصر
ولو كان أحمد فؤاد نجم وصاحبه الشيخ إمام اختارا المرونة لما كانا نجم وإمام
ولو آمن أحمدي نجاد بالمرونة لما كان هو أحمدي نجاد
ولو فكر الشيخ حسن نصر الله لحظة واحدة أن يكون مرنا لقرأنا الفاتحة على روحه فورا
ولو كان إبراهيم عيسى مرنا لما أصبح هو إبراهيم عيسى
المرونة فلسفة ضد العلم وضد الأخلاق وضد التاريخ ، إنها فلسفة قربية جدا من الرذيلة بعيدة جدا عن الفضيلة.
كتبت في 31 أكتوبر 2010

هناك تعليق واحد:

  1. اعتقد ان كلمة المرونة مرادفة للانحراف عن الطريق
    القويم و لكن مع الاحتفاظ بصورة الفرد المجملة امام نفسه اوربما امام الاخرين ايضا ليصبح كل من يتمسك بمبداه كائن "عنترى" لا ينتمى لهذا العالم يجب التخلص منه ببساطة لانه لايتناسب مع معطيات هذا العصر !!!!

    ردحذف