صوتك أمانة (عندنا)
لا أنسى ذلك الشعار القديم "صوتك أمانة فأعطه لمن يستحق" كان الشعار مكتوبا بخط الرقعة و باللون الأحمر الطوبي على جدار عريض لمبنى حكومي في طريقي إلى المدرسة الثانوية ، ولا أنسى حتى اليوم اسم الرجل الذي كتب الشعار انتصارا له وتحفيزا لوضع الأمانة في موضعها ، كان اسم الرجل كما قرأته يومها "بليغ الدسوقي" وبعد أن تخرجت في الجامعة وذهبت إلى قسم الشرطة لإتمام إجراءات التجنيد وجدتني أقف أمام "الصول" بليغ الدسوقي وقتها تذكرت الشعار والاسم كما حفرا في ذاكرتي البصرية ، ولم أعرف حتى اليوم هل كان بليغ الدسوقي قد فاز بأصوات الناخبين أيام الاتحاد الاشتراكي أم أخفق وبقي له الاسم المكتوب بالرقعة والشعار المبهر وحدهما على جدار المبنى شاهدين على محاولته ؟
لقد حفّزتني الانتخابات الأخيرة التي جرت يوم الأحد 28 نوفمبر 2010 ، لكي أتذكر ذلك الشعار وملابسات قراءته للمرة الأولى وأنا بعد تلميذ لا يملك صوتا انتخابيا وقتها ! وأخذت أتفكر في معنى الأمانة في هذا الشعار العتيد ، أو قل في مسؤلية الأمانة ، هل هي مسؤلية من يعطي الأمانة أم أن المقصود أيضا أن الصوت بعد أن يوضع في الصندوق يصبح بمثابة الأمانة لدى الجهة المنوط بها توصيل هذا الصوت لمستحقه وهو المرشح؟
ولأن الشئ بالشئ يذكر ، فإنني أعود إلى تراث الانتخابات المصرية كما صوره الكاتب العبقري توفيق الحكيم في كتابه "يوميات نائب في الأرياف" فقد شهد الحكيم وهو وكيل للنائب العام دورة من دورات الانتخابات المصرية قبل ثورة 1952 ، ففي ايام الانتخابات تلك كانت الإدارة في الريف مشغولة تماما وكان المأمور هو الذي يقود المسألة الانتخابية برمتها ، ويقول الراوي " بلغتُ حجرة المأمور ، فوجدته في هذه المرة أيضا مع أحد العُمَد يحادثه ، سلّمتُ على المأمور وقلت له باسما :
- دايما مع العُمَد ، فقال في نبرة تعب :
- نعمل أيه يا سيدي ، ... واستأذنني المأمور في إتمام حديثه مع العمدة .. فالتفت إلى الرجل وقال له في صياح وتهديد :
- طوّل بالك ، انت يظهر عليك انك مش عارفني . والله لابد من أني...
فقاطعه العمدة مستعطفا :
- أنا راجل غلبان ..
فمضى المأمور في وعيده :
- انتظر ! إن ما كنت أدخلك البرلمان ، ما أبقاش أنا مأمور المركز!
- ليه أنا عملت أيه بس تدخلني البرلمان !
قالها الرجل في توسل وارتياع . فضحكتُ وعجبت . والتفت إلي المأمور قائلا :
- كشوف الانتخابات في جيبه ، ومش عارف حضرته البرلمان ده يبقى أيه. ويسموهم عمد ، ونشتغل معهم !!!
ثم عاد المأمور والتفت إلى الرجل قائلا :
- تفضل من غير مطرود!
فخرج العمدة ذليلا كانه خادم أو مجرم .
ثم يواصل الراوي في " يوميات نائب في الأرياف " حواره مع المأمور ، فيقول ، وقلت مازحا:
- والانتخابات ياحضرة المأمور .. . ؟
- عال .
- ماشية بالأصول ؟
فنظر إلي مليا ، وقال لي في مزاح كمزاحي :
- حانضحك على بعض ؟ فيه في الدنيا انتخابات بالأصول !!
فضحكت وقلت :
- قصدي بالأصول مظاهر الأصول .
- إن كان على دي اطمئن .
ثم سكت قليلا ، وقال في قوة وخيلاء :
- تصدّق بالله ؟ أنا مأمور مركز بالشرف . أنا مش مأمور من المآمير إلي انت عارفهم وأنا لاعمري أتدخل في الانتخابات ، ولا عمري أضغط على حرية الأهالي في الانتخابات ، ولا عمري قلت انتخبوا هذا وأسقطوا هذا . أبدا ، أبدا . أنا مبدئي ترك الناس أحرارا تنتخب كما تشاء ...
فقاطعت المأمور وأنا لا أملك نفسي من الإعجاب :
- شئ عظيم يا حضرة المأمور ، بس الكلام ده مش خطر على منصبك؟ أنت على كده .. أنت رجل عظيم ..
فمضى المأمور يقول :
- دي دايما طريقتي في الانتخابات : الحرية المطلقة ، أترك الناس تنتخب على كيفها ، لغاية ما تتم عملية الانتخاب ، وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه في الترعة ، وأروح واضع مطرحه الصندوق إلي احنا موضبينه على مهلنا .
- شئ جميل!
كانت هذه رواية توفيق الحكيم حول الانتخابات المصرية في عهد ما قبل الثورة ، وهي على ما فيها من مفارقة مضحكة وغرابة ، قد تدفعنا إلى أن تصورها رواية من نسج خيال الكاتب ، ولكن ما يجري اليوم لم يكن مختلفا اختلافا كبيرا عما كان يجري منذ 75 عاما .
صحيح أن العمدة اليوم من حملة الشهادات العليا ، ولكنه يكلف بعمل لا يختلف عما كان يلقى على كاهل العمدة منذ 75 عاما ، فقط هو خادم مطيع لمأمور المركز . وأما المساعدون الذين يستعين بهم المأمور فهم المعلمون الذين ينتدبون للعمل في لجان الاقتراع .
إن ضباط الشرطة يستدعون المعلمين قبل يوم الانتخابات ، حيث يساقون سوق القطعان إلى مراكز الشرطة أو ملاعب كرة القدم في كل محافظة ، ويحتجزون لعدة ساعات ، ثم تؤخذ منهم البطاقات الشخصية ، ويصرفون ، ليعودوا في الصباح الباكر ، ليلحقوا بلجان الاقتراع .
و كلما حل موسم الانتخابات كان على هؤلاء المعلمين القيام بذلك العمل المشين الذي كان يقوم به مأمور المركز في رواية " يوميات نائب في الأرياف" وهم طبعا لا يقومون بإلقاء الصناديق في الترعة ، ولكنهم تحت تهديد الضباط يقومون بتسويد البطاقات الانتخابية ، ولم نسمع عن معلم واحد امتنع عن هذا العمل أو تقدم ببلاغ للنيابة العامة يشكو فيه المهانة التي تعرض لها ، وكيف يفعل المدرس "الغلبان" هذا ، وقانون الطوارئ قائم مسلّط على رقبته كالسيف البتار !؟
كلما تذكرت الشعار الانتخابي الرائع "صوتك أمانة" كنت أتساءل لماذا لا تؤدى الأمانة ؟ ولأنني واحد من المعارضة المصرية ، بلا ذاكرة ، وأقع في الخطإ نفسه مرة بعد مرة ، فقد كنت أذهب إلى لجان الاقتراع ، كل مرة لأدلي بصوتي ، أضعه تأدية للأمانة وأنصرف . وأخيرا امتنعت عن الذهاب ، فقد تبينت أنني لست بحاجة إلى الذهاب ، لأن وزارة الداخلية تقوم بالواجب مستخدمة الشعار نفسه لكن بتعديل طفيف هو " صوتك أمانة (عندنا) "
2 ديسمبر 2010م
السبت، 4 ديسمبر 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق