الثلاثاء، 11 يناير 2011

فتش عن السًّلفيّ


إذا تأملنا وضع بلدنا اليوم ، وتحديدا مع الساعات الأولى من عام جديد في عقد جديد هو العام 2011 الميلادي ، سنجد أنفسنا قد بدأنا نجني حصاد ما زرعنا خلال أربعين عاما مضت ، وكان الحصاد مرّا كالعلقم ، ففي أول عشرين دقيقة من العام الجديد تناثرت أشلاء ثلاثة وعشرين مصريا وجرح عشرات آخرون ، في فاجعة زاد من مرارة الإحساس بها أن هؤلاء كانوا يرتادون كنيسا يعبدون فيه الله الواحد ، وأن مكان الجريمة كان مدينة الاسكندرية ، ثاني أكبرمدينة في مصر . فلم تقع الجريمة هذه المرة ، كما اعتدنا ، في قرية نائية في الصعيد ولا هي جرت في مدينة ريفية مغمورة.
يقابل المصري أخاه المصري ، وقد أصابتهما الجريمة في القلب وهزت منهما الضمير. سيسأل المصري أخاه المصري لماذا يحدث لنا هذا ؟ لماذا تتناثر منا الأشلاء كل مرة بغير ذنب ولا جريمة ، وسيعود المصري إلى تاريخه القريب مع مثل تلك الجرائم التي تسبب فيها الإهمال ويتذكر حادثة العبّارة التي غرقت بألف نفس وبضع عشرات ، كلهم كانوا إما عبادا معتمرين وإما عمالا مجاهدين ، ويتذكر المصري أيضا حوادث القطارات والسيول والطرق والبيوت المنهارة على رؤوس ساكنيها . سيسأل المصري نفسه ويسأل أخاه المصري أيضا تلك الأسئلة التي لا يعمل البحث الجنائي على الإجابة عنها .

لو أننا وقفنا أمام بضعة أسئلة ، نريد الإجابة عنها لفهم ماجرى في هذا الحدث الجلل ، فإننا نترك منها سؤالا واحدا عن الجناة المباشرين الذين ارتكبوا الجريمة وتبحث عنهم أجهزة الأمن ، هذا السؤال لا علاقة له بالتاريخ ولا بالمستقبل ، وأما سائر الأسئلة فهي عن الماضي والحاضر والمستقبل.
في جريمتنا الأخيرة وجدت نفسي مشغولا بسؤال هو : ما العلاقة بين السياسة الحالية والسلفية الدينية المتهم الأول بجريمة اسكندرية مطلع العام الجديد؟
لقد وجدت السلفية في بلدنا مرتعا لها خلال القرن العشرين ، وفي كل مرة كانت تنتج الشؤم وتنتهي بالمآسي ، ونجني من ورائها اليأس والقنوط ، وكانت السلفية تنكسر ثم تعود ، ثم حدث أنها جاءت ولم تغادر قط منذ بداية السبعينيات .

أعلم أن السلفية - منسوبة إلى السلف - لا تعني إلا الاقتداء والتقليد لكل ما صدرعن السلف من أقوال وأفعال ، والمقصود بالسلف هم المسلمون السابقون ، يقولون خلال القرون الثلاثة الأولى من الإسلام !
ولكن السلفي لا يكتفي بأن يقلّد غيره ، بل يدعو الآخرين إلى تقليده هو، والتسليم له بما بقول ويفعل ، لأنه قد جعل نفسه بديلا عن الأصل الذي يقلّده ، وهذه السمة الفكرية ، يسميها الفلاسفة الدوجما أي " التسليم دون تمحيص " وهذا يؤدي حتما إلى " ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة " بما ينفي أي تنوع أو اختلاف.
وهذا بالتحديد هو النمط الذي يلوذ به السلفي الديني ، وكذلك السياسي المتنفذ في مصر اليوم ، إنهما يتفقان تماما على نفي أي تنوع أو اختلاف ، نمط واحد يكفي ، حزب واحد يكفي ، دين واحد يكفي ، مذهب واحد يكفي ، رئيس واحد يكفي . نسخة واحدة من كل شئ ، نسخة واحدة من المدارس في مضمونها شكلها على السواء ، ونسخة واحدة من الجامعة ، نسخة واحدة من عمدة القرية ، نسخة واحدة من رجل الأمن ، نسخة واحدة من عمداء الكليات . نسخة واحدة من الثياب النسائية ، نسخة واحدة من الذوق الفني والأدبي .

تعمدت أن أخلط في هذه التنويعة من الأمثلة بين ما هو ديني وما هو سياسي ، لأنني صرت على قناعة فعلا أننا أمام سلفية واحدة لها جانبان : أحدهما ديني والآخر سياسي ، فالسلفي الديني أراه في القرية ، كما أراه في المدينة ، وأعرف سحنته وتاريخه : هو فاشل أحيانا ، و هو مدّعي أو جاهل أحيانا ، وهوطموح بل طمّاع في بعض الأحيان ، لكنه في كل الأحيان ليس مثقفا حقيقيا ، ولا هو متعلم تعليما مرموقا .
والسياسي السلفي فيه من كل ذلك ، فيه الجهل والطموح والطمع والفشل ، وهو أيضا يفتقد للعمق في الفكر والثقافة والتعليم ، كما هو شأن السلفي الديني تماما.
ولكي لا يكون كلامنا معيبا بالتعميم ، فإننا نقرّ أن فئة من العاملين في الحقل الديني ركبوا الموجة ووجدوا في السلفية مرتعا خصبا وأتباعا مطيعين ، فأصبحوا نجوما ، وهم أهل موهبة ولهم قدرات لا تنكر . كذلك صنع رجال السلفية السياسية ، فمنهم من يتمتع بذكاء وحنكة ولكنه اضطر أن يركب موجة السلفية الساسية فيطبّل ويزمّر لأجل أهدافه الأنانية ، فبدا أمامنا سلفيا مقلدا لأنه وضع نفسه مختارا في تلك الخانة ، ولم نضعه نحن .

كان من دواعي الحزن الذي أوجع القلب أن تقع تلك الجريمة في بلد كان يعرفه العالم كله ، بثراء التنوع الثقافي والديني والعرقي ، كان ذلك الملمح السكندري يدعى "الكوزموبوليتانية" أي العالمية ، لكن السلفي الذي تحكم في التعليم والثقافة والفن والمسجد والكنيسة ، والشارع والجامعة ، نفى عن الاسكندرية ، كما نفى عن مصر كلها ، كل تنوع واختلاف ، فأرادها شيئا واحدا كئيبا ممسوحا لا لون له ولا طعم ولا رائحة ، لذلك لم غريبا أبدا، أن قام قائمهم بليل يمسح أي مظهر للاختلاف .

أيها المصري ، الموجوع بجريمة الاسكندرية ، لا تنسى أنك فجعت من قبل كثيرا ، وأنت إذ تحاول الآن أن تفهم ما جرى ، فخذ مني هذه النصيحة : فتش عن السلفيّ الذي يحكمك ويتحكّم فيك ، ستجده أحيانا على منبر في مسجد ، وأحيانا في فصل في مدرسة ، وقد تجده في ضابط شرطة أوحاكم بدرجة محافظ ، وهو أحيانا رئيس جامعة أو وزيرأو أمين حزب ، وهورئيس تحرير جريدة كبرى ، وهو كذلك شيخ متنفذ في قناة فضائية أو متحدث جهوريّ الصوت في شريط كاسيت . كلهم ذلك السلفي الذي تبحث عنه لتعاقبه على جريمة وقعت في الاسكندرية ليلة عيد الميلاد .

الثلاثاء 4 يناير 2011م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق