كلمة عن النظام
اعتدنا أن نقف صفا في القضايا الكبيرة ، التي تهم الوطن ، كأننا جنود نصطف تلبية لنداء الواجب والفداء ، كما جرى في حادثة الاعتداء على كنيسة الاسكندرية ليلة عيد الميلاد ، حتى إذا انقضت المهمة انصرفنا كل إلى شأنه الخاص ، وقد يرى بعضنا في هذا عيبا ، فيقول هكذا نحن نتجمع ثم ننفض وكأن شيئا لم يكن . أنا شخصيا لا أرى ضيرا في هذا ، لأن بقية المهمة ليست علينا بل على آخرين ، عليهم أن يدرسوا ، ويستنتجوا ، ويشرّعوا وينفذوا ، أما أن نحتشد طوال الوقت هكذا فهذا لا يروقني شخصيا ، وهو يشبه المسلك الذي أراه لدى بعض أصدقائنا على الفيس بوك ، إنهم يريدون أن يحلّوا كل مشكلات العالم على الفيس بوك. اسمحوا لي يا سادة :هذه ليست مهمتكم ، صاحب بالين كدّاب .
إن من أوجب واجبات النجاح في المجتمعات الحديثة في عصرنا هذا ، تقسيم العمل وأظنه كان أمرا مسلّما به ، في كل عصر ، ولكن الأوربيين قننوه تقنينا ، حتى أصبحنا نعترف لهم بالسبق في هذا المجال ، وبقينا نحن نشكو من القصور في تقسيم العمل وكأنه أشد آفات بلداننا فتكا بنا وإهدارا لوقتنا وإمكاناتنا ، علينا أن نعترف أن " التحميل الزائد " مشكلة حقيقية ، وقد ورد في المثل العربي المأخوذ عن حديث شريف " إن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " ومعناه الذي يجهد ناقته حتى يقضى عليها فلا يصل إلى هدفه ولا تسلم له ناقته .
هناك خلل ، هذا واضح ، والعيب فينا ، لكن كيف نشخّص العيب الذي نعترف به ؟ كيف نشخص الدّاء تشخيصا دقيقا حتى نعالجه علاجا صحيحا ؟ نريد ان نراجع الكلام حول الـ"نحن" فقد أصبح كلاما ممجوجا وكأنه من مخلفات عصور الاستعمار والعنصرية البغيضة ، وهو ليس كذلك في الحقيقة ، لأنه محاولة للاعتراف من جانبنا بالخطأ ، وهو فضيلة لا شك فيها ، لكن يبدو أننا سنقضي السنوات والعقود ونحن نعرف أن فينا عيبا ولا نعالجه ، دعونا إذا نبحث عن طريقة أخرى للتشخيص ، لعلها تجدي ، ولعلنا نصل إلى معرفة أسباب الخلل !
المجتمعات الحديثة ، تراكم الخبرات ، وتعرف مفهوما شاع واعترف به - وإن عارضه مفكرون وكتاب – هو مفهوم التقدم ، فلا تعرف تلك المجتمعات النظرة الواحدة ، ولا المؤسسة الواحدة ، سواء أكانت تلك المؤسسة فردا أو مجموعا ، ولكنها عرفت تعددا في المؤسسات التي يلقى عليها بالمسؤلية ، وتتشارك في العمل والإنجاز ، كما تتشارك في جني الأرباح ، وكذلك في تحمل الغرامات والتبعات . وهذا هو " النظام " . فالنظام ليس مفهوما محدودا ينصرف إلى معنى النظام السياسي ، الذي شاع عندنا ، فكلما قلنا النظام كان معناه النظام السياسي ، والنظام السياسي هو الرئيس لأن الرئيس دكتاتور ، فلا معنى لسلطات تتعدد مادام الرئيس وحده هو السلطة الحقيقية ،لا نماري في هذا الآن ، ولكننا نريد أن نعرّف النظام بالتعريف الذي يعتمده الغرب ليكون ذلك هو بداية فهم المشكلة التي نعاني منها ، ونظن أننا قد خلقنا هكذا وأن هذا هو قدرنا الذي لا فكاك منه .
النظام الذي يحكم الغرب اليوم ، وهو يحكم المجتمعات التي بدأت تعرف طريق التقدم ، هو "نظام المجتمع" لا كافراد ولا مجموعات إثنية أو عرقية أو دينية ، لا ، إنه المجتمع بأدواته التي تشغّله ، الاقتصاد والسياسة . فهو أحيانا يسمى النظام الاجتماعي الاقتصادي و يضاف إليه أخيرا الصفة السياسية الملازمة ، فهو مجتمع ذو ثلاثة أجنحة . لم يعد الأفراد هم عناصر تكوين النظام الاجتماعي ، وإنما المجتمعات : الأسرة ، المهنة ، المدرسة ، النقابة ، الحزب .. الخ ، حيث يجد الفرد وعيه وانتماءه للبيئة العامة أي المجتمع الكلي أو الأمة والدولة .
وجود المؤسسات وجودا متحققا هو الفرق بيننا وبين من سبقونا في مضمار التنظيم ، تنظيم الوقت وتنظيم العمل بتقسيمه ، لكننا لا نريد لهذا الهدف أن يتحقق ، لا نريد للناس أن تعمل وتنتج لأنها مسؤولة وعليها عبء محدد ولها مهمة محددة ، ونستطيع أن نحاسبهم بالسلب والإيجاب ، نستطيع أن نعطي حافزا ونستطيع أن نحجب ميزة أو نعطي جزاءً ، الصغار وحدهم نصنع معهم هذا لأن لهم رؤساء يحاسبونهم ، فما شأن الكبار !؟ هذا هو مربط الفرس .
أنت تستطيع أن تحاسب مدرّسا بنقله ، لمكان عمل بعيد ، أو خصم مبالغ مالية من راتبه أو منعه من الترقية .. إلخ لكنك لا تستطيع أن تحاسب وكيل وزارة التعليم لأنه من أتباع الوزير الذي عينه وهو وحده القادر على محاسبته ، أما الوزير نفسه فلا معنى للتفكير في محاسبته أصلا .
والأمثلة على ذلك كثيرة طبعا ، ومن دواعي الأسف ، مع غياب " النظام " أننا لا نعرف كيف نقدم الأفكار الجديدة ، ما الطريقة الصحيحة لكي نشارك في تقدم مجتمعنا ، أو لكي نمنعه من التدهور ، تقسيم العمل أيضا في هذه النقطة فيه قصور واضح ، لأننا خلطنا العمل السياسي القومي بالعمل المحلي ، المحافظ لا يتعامل مع الناس في محافظته على أنه مسؤول أمامهم ، بل هو مسؤول أمام رئيس مجلس الوزراء أو أمام رئيس الجمهورية ، لا يجرؤ أحد ولا يستطيع أن يتقدم لمحاسبة المحافظ أو مدير الأمن أو حتى رئيس جهاز تعمير مدينة مثل دمياط الجديدة ، هؤلاء جميعا لهم وزراء عينوهم في مناصبهم ، ولهم وحدهم حق محاسبتهم ، هذا هو الخلل الأكبر في تقسيم العمل ، مركزية في التخطيط ، وتعيين المسؤولين في كل موقع ، من محافظ إلى رئيس جامعة إلى مدير أمن إلى رئيس مدينة ، حتى العمدة تعينه وزارة الداخلية .
سيقول قائل ولكنك لا تنكر أن تقسيما للعمل موجود هنا فيما ذكر من مناصب كل منها لها مهام محددة يعرفها أصحابها ويعرفها الناس ! لكنني اعترض على هذا القول فمايزال تقسيم العمل هنا غير مكتمل بل هو معيب أشد عيب وأبغضه ، وساضرب مثالا واحدا من حقل لا توجد فيه أسرار وكل فرد في المجتمع له صلة به ولو من بعيد ، هو التعليم ، إننا نعرف تماما أن إيقاف أو نقل مدير مدرسة قد يستغرق سنوات ، لأن المطلوب قرار وزير وقرار الوزير قد لا يأتي ، ولقد شهدت بعض المدارس صراعا مريرا بين معلّم ومدير ، وكانت الوزارة في القاهرة هي التي تدير المعركة ولم يكن لمديرية التربية والتعليم قدرة على الفعل مادام الأمر في يد لجان الوزارة . وهذا هو الحال في كل الوزارات كما نعلم .
نريد أن نشارك نحن في اختيار مدير الصحة ومدير التربية والتعليم ورئيس الحي ومدير الأمن ورئيس المروروالمحافظ والعمدة وأن تشارك الجامعة في اختيار رئيسها كذلك . إذا شارك الناس في اختيار هؤلاء المسؤولين سوف يعرف كل منهم كيف يترك غيره يعمل ويجتهد ، ولن يتسلط ولن يجمع السلطات كلها في يده ، ونصبح جميعا رهينة له في مكانه الذي لا نعرف كيف وصل إليه ، هذا هو "انعدام النظام" الذي ننتقده وهو في ذات الوقت "النظام" الذي نظن أننا في حاجة إلى تفعيله لضمان التقسيم الصحيح للعمل ، وإلا سنبقى نحلم بحل مشكلات العالم ، ونحن أعجز ما نكون عن حل أوهى مشكلاتنا ، كما يصنع أصدقاؤنا من حسني النية على الفيس بوك.
مساء الثلاثاء 11 يناير 2011م
الثلاثاء، 18 يناير 2011
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق