عصابة اللهو الخفي
عانت الثورة من التحليلات السياسية ، فكانت النتيجة فهما ملتبسا في قضايا الدستور وأمن الدولة والحزب الوطني .
قضية الدستور والاستفتاء على تعديله كان المجلّون فيها هم رجال القانون والقانون الدستوري خاصة ، ووجدتُ في رأي المستشارة تهاني الجبالي والدكتور حسام عيسى موقفا صلبا واضحا يتماشى مع موقف الثوار ، نحن في لحظة التأكيد على الشرعية الثورية لا الاستسلام لاعتبارات الأمن . وقد أعجبني التخوف من شراذم الحزب الوطني ، لأنهم بالمال يتحركون ، وعلى الأكاذيب يتغذون ويخدعون ، وخبرتهم في ذلك لا تنكر ، أما القول بأن الإخوان أيضا سيتحصلون على نصيب وافر من الأصوات وحصيلة معتبرة من النواب ، فهو من عجائب المواقف السياسية ، لأننا يجب أن نراهن على وعي الشارع واختياراته ، لا على تضييع الوقت والمماطلة ، ثم إنه من حق الإخوان في انتخابات نزيهة أن يحصلوا على نصيب مستحق من الأصوات .
وأما قضية أمن الدولة فقد قال في شأنها المحللون من رجال القانون والسياسة والفكر والأمن رأيان ، كان الرأي الأول : أنه لا غنى عن أمن الدولة ، ولا يمكن حلّ الجهاز. والرأي الثاني قال أنه لابد من حل الجهاز ، فلما تحركت الثورة المضادة ، من داخل الجهاز وخارجه ، تحرك الثوار في كل مكان في وقت واحد ، وصح ما تخوفوا منه ، وثبت أنه لابد من حل الجهاز .
وأخيرا حلّت القضية الثالثة : الحزب الوطني ، ليس فقط لأن حلّ الحزب كان مطلبا للثوار ، ولكن أيضا لأن الحزب الوطني نفسه تحرّك ، فقد بدأوا يعلنون عن قبول استقالات وإجراء انتخابات .
قضية الحزب الوطني هي القضية الثالثة المهمة بعد سقوط مبارك وحل جهاز أمن الدولة ، ذلك أن قضية الأمن وقضية توقف الإنتاج جزئيا وهبوط السياحة كليا وظهوربؤرالفتنة الطائفية .إلخ ، لم تكن من وجهة نظري إلا من تبعات الثورة في زخمها وتطورها ، ولو كان الإنتاج الصناعي والسياحة والبورصة قد استمرت في سيرها الطبيعي فمن الذي كان يحس بالثورة ويعترف بوجودها !!
لسنا بحاجة إلى معجزة جديدة مثل معجزة عناد حسني مبارك وخطاباته الرديئة التي رفعت سقف المطالب وأكدت على ثبات الثورة ، التي ظن كثيرون أنها احتجاج وليس ثورة ، ولا مثل معجزة تآمر الشرطة وخيبتها الثقيلة التي نبهتنا إلى الخيانة وإلى ضرورة حل جهازأمن الدولة؟!
ولقد كانت حادثة الاعتداء على الثوار يوم الأربعاء ليلة الخميس الشهيرة في ميدان التحرير ، فيما عرف بموقعة الجمل ، مددا إلهيا للثورة ، كانت هذه في الحقيقة هي المعجزة الثالثة ، ونحن لم نستغل هذه الحادثة ، بعد سقوط النظام ، وشغلتنا مسألة إقالة أحمد شفيق ، وإسقاط أمن الدولة ، وهو ترتيب للأولويات ثبت أنه صحيح ، والآن فإننا إذا لم نعد لهذه النقطة تحديدا ، فلن يكون لنا رأي سديد في موضوع الحزب الوطني ، فلقد ثبت بالدليل القاطع أن صفوت الشريف وأعضاء الحزب الطلقاء – بعد حبس عز وهرب جمال مبارك - الذين اعتادوا على دفع الرشاوي الانتخابية هم أعدى أعداء الثورة ، هؤلاء يتساوون مع كبار ضباط أمن الدولة في موقفهم من الثورة التي سلبتهم كل شئ .
قبل أن نقترح طرق حل الحزب علينا أن ندرك الخطورة المترتبة على بقائه ، وهي خطورة بالغة ، ومصدر الخطورة أن هذا الكيان ليس حزبا ولكنه عصابة ، وأن آليات عمل العصابات مزعجة ومراوغة إلى أقصى حد ، وأنا واثق الآن أن المحللين السياسيين لن يعجبهم هذا الوصف ، كما أنه لم يكن في ذهن أغلب السياسيين قبل الثورة أن يعترفوا بأن من يلاعبهم هم عصابة ، وإلا لما أقدموا على اللعب معها مثلما فعلوا لمدة ثلاثين عاما.
كنت دائما على قناعة بأن هذه العصابة كانت تتآمر ليل نهار خلال السنوات الخمس الأخيرة قبل الثورة ، وأن إحدى الخيبات الكبرى لأحزاب المعارضة أنها لم تحاول يوما اختراق العصابة والتجسس عليها وفضحها ، بل كانوا يستسلمون لتجسسس العصابة عليهم ، وكان جهاز أمن الدولة – وهو الذراع الأمنية للعصابة – يعمل بهمة ونشاط ، جهارا نهارا مع أحزاب المعارضة ، ولكن أحزاب المعارضة كانت تبرر لنفسها السكوت والهوان حتى وصل الحال بهم أن اجتماعاتهم لم يعد لها محاضر ولا مضابط لديهم ، وأن جهاز مباحث أمن الدولة أصبح الجهة الوحيدة التي تملك تفاصيل تلك الاجتماعات .
كنت ذات يوم مسافرا بصحبة صديقي أمين إعلام الحزب الوطني في محافظة دمياط ، وهو صحفي محترف ، فتلقى مكالمة تليفونية من أمين إعلام مركز من المراكز تابع له ، وإذا بصاحبي يطلب من ذلك الأمين أن يجتهد في تلفيق أي خبر ضد جماعة الإخوان المسلمين ، التي اعتادوا أن يسموها المحظورة ، لوضعه على صفحة الحزب على الإنترنت ، حتى يحسب نشاطا حزبيا لذلك الأمين ، فأثارتني المكالمة حتى قلت لصديقي الصحفي : "والله دا انتوا اللي جماعة محظورة وليس جماعة الإخوان" .
علينا أن نفهم أننا أمام عصابة وليس حزبا وهناك دلائل كثيرة تؤكد ذلك ، منها أن أغلب أعضاء الحزب الوطني اعتادوا أن يشتموا حسني مبارك بأقذع الألفاظ كلما واجهوا أشخاصا ، من خصومهم السياسيين لا يستطيعون الرد عليهم وعلى حججهم ، كما أن أعضاء الحزب الوطني لم يعملوا في النور أبدا ، كان جمع البطاقات لتأليف لجنة من لجان القرى يتم بالتحايل والكذب وإيهام الناس بأن مغنما ما سيكون من نصيب صاحب البطاقة ، إذا هو وافق على تصويرها ، أو أن ضررا ما سيصيبه إذا أحجم عن تسليم بطاقته لتصويرها ، وكان المنتفع الأكبر في القرية يتكفل بدفع اشتراكات العدد المطلوب لتشكيل اللجنة في كل قرية من القرى ، ومن يدفع أكثر تكون فرصته في الترشح للمجالس الحلية أكبر ، فإذا علم العضو أن زميلا له هو الذي كسب الرضا من أمين المركز وأنه سوف ينال نصيبا في كعكة الأمانات أو المحليات أحجم عن الدفع وحجته أن المرشح ليس أنا بل فلان فلماذا أدفع ، لم يكن هناك أية قواعد حزبية ولا أية مناقشات سياسية ، وممنوع التفكير لأنه مضر بالحزب ومناف للأدب . وكلنا يتذكر مشهد نواب الحزب الوطني وهم يحملون جريدة الأهالي ، ويدخلون بها على رئيسهم حسني مبارك ، فيقرّعهم ، ويسألهم عن صحيفة الحزب الأسبوعية "مايو".
تفكيك العصابة هو مهمتنا الصعبة والملحة في المرحلة المقبلة ، ولابد من اتهام العصابة بتهم جنائية وسياسية محددة حتى نستطيع الإمساك بأفرادها ، علينا أن نحدد الموقف القانوني لمئات المقرات في المحافظات والمدن المصرية كافة لاستردادها ، ولا يجب أن نتردد في ذلك مجاملة لحزبي التجمع والأحرار اللذين نالا نصيبا من المقرات من الدولة في زمن السادات ، وعلينا أن نطلب البحث في أموال الحزب وحساباته ، وما يدين به لدار التحرير من أموال مقابل طبع ونشر جريدة مايو ، وما يدين به للتليفزيون من أموال ثمنا لإعلانات الحزب خلال السنوات الخمس الأخيرة ، وعلينا أخيرا أن نبحث عن كل وثيقة تخص الحزب في المجالس الشعبية المحلية وفي مقرات المجلس القومي للمرأة وفي وثائق جهازمباحث أمن الدولة .
الخوف من العصابة الآن ليس من قوة المال الذي تملكه ، بل من طريقة عملها وانعدام القيم السياسية لدى أفرادها .
أختم مقالي بما بدأت به من شك في قيمة التحليلات السياسية ، فأنا رجل قد ألهته العناية بدراسة الأدب عن دراسة السياسة ، وقد أجد في رواية نجيب محفوظ "ليالي ألف ليلة " وشخصيات زرمباحة وسخربوط وعُجر والمعلم سحلول ما يفهّمني آلية عمل عصابة الحزب الوطني التي هي أشبه بأعمال السحر واللهو الخفي منها بأعمال السياسة والأحزاب السياسية.
13 مارس 2011م
الأحد، 13 مارس 2011
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق