مذكرات من ثورة 25 يناير
خرج ولم يعد
( 1 )
خرج ضابط الحرس من مكتبه بكلية آداب دمياط يوم الثلاثاء ، انصرف الضابط الشاب في هدوء بعد أن نزع ورقة يوم 24 يناير من نتيجة الحائط ، لقد كان على يقين من أن خروجه إلى شارع الكورنيش بمدينة دمياط ، أو إلى أي موقع آخر بالمدينة ، سوف يكون عملا روتينيا يساعد فيه ضباط الداخلية من كل القطاعات مع ضباط وجنود الأمن المركزي ، في السيطرة على المظاهرات ، إنها أوامر أمن الدولة التي لا ترد ، سيقف الضابط في الشارع لساعات طويلة ، ولكن لا بأس إذا كان العمل المريح والمميز جدا في حرس الجامعة يتخلله أحيانا مثل هذه المهام التي تذكّر الضباط والجنود في حرس الجامعة أنهم في النهاية من الشرطة وأنهم يتبعون وزارة الداخلية ، وإن كان مقر عملهم في الجامعة .
لقد أبلغه العميد محمد البلتاجي قائد الحرس بدمياط بالأوامر ، وتركه يمضي ليسلم نفسه لضباط أمن الدولة ، أما البلتاجي نفسه - وكنت قد التقيته في نهاية عام 2010 م - فقد كان مريضا بالكلى فلم يشارك في هذا العمل ، وقضى الله أن يتوفى بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالديكتاتور ، ودفن في بلدته كفر المياسرة مركز الزرقا ، ولكني لم أعرف أنه ابن عم صديقي المهندس جمال البلتاجي ، ولم أشارك في جنازته ، فقد علمت بالوفاة بعد مضي أسبوع .
هل ذهب ضابط الحرس بآداب دمياط إلى ميدان الشهابية أم ذهب إلى ميدان البوسطة ؟ أم كان عليه أن يقف في النقطة الساخنة بباب الحرس ؟ علم ذلك عند الله .
( 2 )
أنا شخصيا كنت في ميدان البوسطة أمام تمثال بنت الشاطئ ، بدأنا الوقفة عند تمام الواحدة ظهريوم الثلاثاء 25 يناير ، كنا عشرة ناشطين بالتمام والكمال : محمد درة ، صاحب البيت حيث مقر حزب الأحرار مكان التحرك ، ومنتصر زميله في الحزب وصديقهما عضو حزب العمل عبد الوكيل مصطفى ومحمد التوارجي منسق حركة كفاية بدمياط وشادي التوارجي ومحمد الشطوري من حزب الكرامة ، وأحمد خضر المحامي وأنيس البياع نائب رئيس حزب التجمع المستقيل ، وأحمد عماشة الإخواني الوحيد بيننا ، وأخيرا كاتب هذه السطور .
حينما وقفنا على الرصيف وبدأنا الهتاف كان معنا علم مصر نحمله ونلوح به ، لم يكن عدد الأعلام يزيد على علمين أو ثلاثة ، وكان أحمد عماشة وحده يحمل راية لونها أخضر فستقي لا أدري إلى ماذا كانت ترمز تلك الراية ، كانت راية صغيرة مثبتة في عصا قصيرة لكنه كان يحملها فوق كتفه ويجول بها على الرصيف وسط هذا الجمع من الأصدقاء بطريقة مضحكة ، وبدأ محمد درة الهتاف في ميكرفون يدوي كان يحمله كلما خرجنا ، في مناسبة من المناسبات ، وكان آخرها يوم 3 يناير حينما وقفنا أمام برج الشرطة وانتقلنا إلى الكنيسة لتعزية إخواننا في ضحايا ليلة رأس السنة الدموية في الإسكندرية يوم العدوان على كنيسة القديسين . يومها أصر الضباط ألا نمشي في الشارع مجتمعين بل نركب السيارات أو نمشي متفرقين ، وقال كبيرهم هذا هو الاتفاق ، أذعنا له التزاما بالاتفاق .
بعد نحو ثلاثة أرباع الساعة من بداية وقفتنا ، كان العدد قد زاد على الخمسين ، وكان نحو مائة شخص آخرين قد وقفوا يتفرجون ويستمعون للهتافات العالية بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية : عيش حرية كرامة إنسانية ، وفجأة حضرت مجموعة الحزب الناصري بقيادة أحمد سرّيّة وضياء داوود ومحمد بركات وجمال كسبر وآخرين ، لم تقف المجموعة الجديدة على الرصيف ، وما الذي يلزمهم بهذا الكردون وهم قد تحركوا من أمام الحزب الناصري إلى حيث نقف نحن هنا ؟! وقاد أحمد سرّيّة الهتاف وألهب المشاعر وبث في الحاضرين روحا من التحدي ، فنزلنا من فوق الرصيف إلى بحر الشارع ، وهتفنا وراء أحمد سرّيّة ، فقد أخذ يضرب على صدره بقوة هاتفا " إحنا اصحاب القضية ، إحنا اصحاب القضية " و " يا جمال قول لابوك الدمايطة بيكرهوك " ورددنا خلفه هتافاته في حماس بالغ ، في هذه اللحظة أخذت الأعداد تتزايد والجو يزداد سخونة ، وكانت الساعة قد بلغت تمام الثانية ، فأخذ الضباط يخاطبون التوارجي ودرة والبياع مطالبين بالالتزام بالموعد المتفق عليه أي الانصراف بعد ساعة واحدة ، في هذه اللحظة تناول التوارجي الميكروفون وأخذ يخطب قائلا " الضباط ليسوا أعداءنا ، نحن نحتفل اليوم بذكرى البطولة التي أبداها ضباط الشرطة الشجعان في الإسماعيلية في عام 1951 ، سوف نتلتزم ونوقف المظاهرة الآن ، ولكن نعدكم أننا سنكون هنا قريبا وسوف نحتفل مرة أخرى وسوف يكون احتفالنا بالنصر ، وأما حبيب العادلي فسوف يكون سجينا خلف القضبان " وصفق الحضور ، وهتف الجميع : يسقط يسقط حسني مبارك ، وانتهت المظاهرة عند هذا الحد.
( 3 )
كان ظني حتى ذلك الوقت أن مظاهرة دمياط هي هذه المظاهرة التي شاركنا فيها ، وأنها قد انتهت عند هذا الحد ، لكني كنت مخطئا تماما ؛ لأن مظاهرة أخرى كانت هناك في منطقة باب الحرس ، حيث تجمع شباب 6 أبريل ، و قد كسروا الطوق الذي كان يحاصرهم على الرصيف عند محطة الأتوبيس ، ومن المفارقات أن سمير الفيل ، الأديب المعروف ، كان واحدا من الذين كسروا الطوق حول مظاهرة باب الحرس ، فتحركت المظاهرة في شارع الجلاء حتى وصلت إلى ميدان البوسطة ، في هذه اللحظة كان مصير ضابط الحرس الجامعي بكلية الآداب يتغيربشكل درامي ، فقد كتب في كتاب حياته المهنية فصل جديد ، فهل كان الضابط الشاب يدري بما تحيكه له الأقدار ؟
حينما تحركت الموجة البشرية في الشارع واستعصت على السيطرة الشرطية المعتادة ، تقرر ألا تعود الشرطة لسكناتها وأماكن انتشارها الأصلية ، ولكن تبقى في الشوارع حتى إخطار آخر ، لم يعد هناك فرق بين نقطة وأخرى ، أينما كان ضابط الحرس ، فإن عودته لمكتبه في كلية الآداب أصبحت مؤجلة حتى إشعار آخر .
وفي صباح اليوم التالي ، الأربعاء 26 يناير 2011م ، قبض على كل من محمد التوارجي وولده شادي ، وضياء الدين داوود ومحمد مصطفى وماهر الشيال وأحمد عماشة وأحمد سرية .
تطورت الأحداث تطورا دراميا متسارعا ، فشهدت مدينة دمياط أكبر مظاهرات في تاريخها يوم جمعة الغضب 29 يناير ، وضربتنا الشرطة بعنف في نهاية اليوم فقتل من قتل وأصيب من أصيب ، وأحرقت بعض مباني الشرطة وبعض السيارات ومقر الحزب الوطني ، وبقيت الشرطة في الشوارع لا تغادر ، ولا تنام ، حتى عصر يوم 29 يناير ، خرج زملاؤنا المعتقلون عند الواحدة ظهرا ، واستقبلناهم في الميدان استقبال الأبطال ، ثم جاء الجيش عند العصرإلى دمياط وتمركز في الاستاد ، فاستقبلنا ضباطه وجنوده بالورود ، وسارت الثورة في طريقها بعزيمة لا تلين حتى سقط الديكتاتور يوم 11 فبراير .
( 4 )
لم أكن أعمل رسميا في كلية آداب دمياط ، وإن كنت عملت بها منتدبا بعض الوقت ، ولا كنت أعرف ضابط الحرس معرفة شخصية ، كان العميد محمد البلتاجي قد ذكر اسما أمامي قائلا : الضابط مهاب ، وكرّت أيام الثورة المجيدة تباعا وعدنا لعملنا في الجامعة ، وجاء الجيش يحرس المنشآت الجامعية ، ثم قدر لي أن أنتقل من جامعة طنطا إلى جامعة المنصورة في دمياط ، وقد تبخر الحرس الجامعي تماما فقد نفذت الجامعات حكم القانون الذي كان يقضي بأن تعين كل جامعة حرسا جامعيا من المدنيين يتقاضون أجورهم من أموال الجامعة ويتبعون رئيسها تبعية مباشرة . وكرّت الشهور أيضا وتقرر أن تقام انتخابات جامعية ، فترشحت لعضوية لجنة انتخابات الكلية ، ثم أصبحت بحكم الأقدمية رئيسا لتلك اللجنة ، وبدأت أمارس عملي من حجرة خصصتها إدارة الكلية لعمل اللجنة .
كانت الغرفة التي تسلمناها مؤثثة جيدا ، بها أنتريه منجّد ومكتب خشبي ومروحة رِجْل "فريش" ، وتليفون أرضي ، لاحظت أن التليفون لا يعمل ، فطلبت إعاة توصيله ، وجاء عامل التليفون لإصلاحه ، وفي حواري معه قال إن التليفون كان لضابط الأمن وأنه لا يعمل منذ ترك الضابط عمله في الكلية ، كان وجود غرفة خاصة وتليفون وأنتريه ومروحة لاستخدام شخص واحد في كلية آداب دمياط أمرا استثنائيا للغاية لأن مبنى الكلية صغير جدا، والإمكانيات محدودة ، وعميد الكلية دائما هو أستاذ منتدب من المنصورة ، ولا يريد لأحد أن ينافسه في المزايا التي يتمتع بها في منصب العميد ومنها وجود جهاز التليفون بخط مباشر والمروحة والأنتريه ، لكن ضابط الأمن كان استثناء من ذلك التقشف ليس في آداب دمياط - الفقيرة جدا - وحدها بل في كل كليات الجامعة في مصر تقريبا .
لم أجد في مكتب الضابط أوراقا تدل على عمله ، فيما عدا بعض تصاريح دخول السيارات إلى حرم الكلية ، ومن المتعلقات الشخصية كان هناك علبة عيدان بلاستيكية لتسليك الأذن ، ما عدا ذلك لم يبق من أثر الضابط شئ على الإطلاق ، ومضى اليوم الأول وأنا أعيد ترتيب الحجرة وتنظيفها ، وغادرت المكان في نهاية اليوم ، وقد ذهبت أخبار الضابط إلى ركن خفي من شعوري واهتمامي .
( 5 )
في اليوم التالي عدت لمواصلة العمل في لجنة الانتخابات ، كان يوما جديدا من شهر سبتمبر ، يوم الاثنين من الأسبوع الثالث من شهر سبتمبرعام 2011م ، وحينما شرعت في كتابة التاريخ وأنا أسجل أول محضر لاجتماعات اللجنة ، نظرت إلى الحائط أسأل النتيجة عن تاريخ اليوم ، في هذه اللحظة لمحت التاريخ عن بعد فلم أتبينه جيدا لكنني عرفته ، وأيقنت أنه هو ، هو يوم العيد ، ذهبت أعدو إلى الحائط المعلقة عليه النتيجة ، وأمسكت بالورقة ، كان التاريخ المدون عليها هو 25 يناير 2011م ، وقد كتب بأسفل الورقة "عيد الشرطة" ، ياااا اللله ، في هذه اللحظة تحديدا كنت شغوفا جدا أن أسأل عن الضابط ، عن اسمه ، وعن رتبته ، وفي هذه اللحظة عرفت الاسم كاملا " مهاب صبري" ورتبته في الميري : "نقيب مهاب صبري" ، بحرس الجامعة بدمياط ، نقيب مهاب صبري قائد الحرس بكلية الآداب ، ياااااه ، ذهب مهاب صبري يوم عيد الشرطة إلى ميدان البوسطة أو إلى مكان قريب على الكورنيش في مدينة دمياط ، حيث مقر الحزب الناصري ، أو لعله كان هناك في باب الحرس ، لمحاصرة المظاهرات ، أو للمشاركة في قمع المظاهرات ، وفي يقينه أنه سيعود لعمله المميز في حرس الجامعة ، لكنه لم يعد أبدا إلى ذلك المكان ، ولم تطأه قدماه منذ ذلك اليوم . وبعد انتخاب عميد جديد للكلية ، سوف تصبح غرفة قائد الحرس مستقرا للأساتذة الرواد الذين لا تسعفهم أرجلهم - وقد تقوست عظامها أو كادت - للصعود إلى الدورين الثاني والثالث بالكلية ، وأما ساكن الغرفة القديم ، قائد الحرس ، فقد ترك مكتبه يوم 25 يناير إلى الشارع ، في مهمة شرطية معتادة ، لكنه خرج ولم يعد .
25 يناير 2012م
خرج ولم يعد
( 1 )
خرج ضابط الحرس من مكتبه بكلية آداب دمياط يوم الثلاثاء ، انصرف الضابط الشاب في هدوء بعد أن نزع ورقة يوم 24 يناير من نتيجة الحائط ، لقد كان على يقين من أن خروجه إلى شارع الكورنيش بمدينة دمياط ، أو إلى أي موقع آخر بالمدينة ، سوف يكون عملا روتينيا يساعد فيه ضباط الداخلية من كل القطاعات مع ضباط وجنود الأمن المركزي ، في السيطرة على المظاهرات ، إنها أوامر أمن الدولة التي لا ترد ، سيقف الضابط في الشارع لساعات طويلة ، ولكن لا بأس إذا كان العمل المريح والمميز جدا في حرس الجامعة يتخلله أحيانا مثل هذه المهام التي تذكّر الضباط والجنود في حرس الجامعة أنهم في النهاية من الشرطة وأنهم يتبعون وزارة الداخلية ، وإن كان مقر عملهم في الجامعة .
لقد أبلغه العميد محمد البلتاجي قائد الحرس بدمياط بالأوامر ، وتركه يمضي ليسلم نفسه لضباط أمن الدولة ، أما البلتاجي نفسه - وكنت قد التقيته في نهاية عام 2010 م - فقد كان مريضا بالكلى فلم يشارك في هذا العمل ، وقضى الله أن يتوفى بعد نجاح الثورة في الإطاحة بالديكتاتور ، ودفن في بلدته كفر المياسرة مركز الزرقا ، ولكني لم أعرف أنه ابن عم صديقي المهندس جمال البلتاجي ، ولم أشارك في جنازته ، فقد علمت بالوفاة بعد مضي أسبوع .
هل ذهب ضابط الحرس بآداب دمياط إلى ميدان الشهابية أم ذهب إلى ميدان البوسطة ؟ أم كان عليه أن يقف في النقطة الساخنة بباب الحرس ؟ علم ذلك عند الله .
( 2 )
أنا شخصيا كنت في ميدان البوسطة أمام تمثال بنت الشاطئ ، بدأنا الوقفة عند تمام الواحدة ظهريوم الثلاثاء 25 يناير ، كنا عشرة ناشطين بالتمام والكمال : محمد درة ، صاحب البيت حيث مقر حزب الأحرار مكان التحرك ، ومنتصر زميله في الحزب وصديقهما عضو حزب العمل عبد الوكيل مصطفى ومحمد التوارجي منسق حركة كفاية بدمياط وشادي التوارجي ومحمد الشطوري من حزب الكرامة ، وأحمد خضر المحامي وأنيس البياع نائب رئيس حزب التجمع المستقيل ، وأحمد عماشة الإخواني الوحيد بيننا ، وأخيرا كاتب هذه السطور .
حينما وقفنا على الرصيف وبدأنا الهتاف كان معنا علم مصر نحمله ونلوح به ، لم يكن عدد الأعلام يزيد على علمين أو ثلاثة ، وكان أحمد عماشة وحده يحمل راية لونها أخضر فستقي لا أدري إلى ماذا كانت ترمز تلك الراية ، كانت راية صغيرة مثبتة في عصا قصيرة لكنه كان يحملها فوق كتفه ويجول بها على الرصيف وسط هذا الجمع من الأصدقاء بطريقة مضحكة ، وبدأ محمد درة الهتاف في ميكرفون يدوي كان يحمله كلما خرجنا ، في مناسبة من المناسبات ، وكان آخرها يوم 3 يناير حينما وقفنا أمام برج الشرطة وانتقلنا إلى الكنيسة لتعزية إخواننا في ضحايا ليلة رأس السنة الدموية في الإسكندرية يوم العدوان على كنيسة القديسين . يومها أصر الضباط ألا نمشي في الشارع مجتمعين بل نركب السيارات أو نمشي متفرقين ، وقال كبيرهم هذا هو الاتفاق ، أذعنا له التزاما بالاتفاق .
بعد نحو ثلاثة أرباع الساعة من بداية وقفتنا ، كان العدد قد زاد على الخمسين ، وكان نحو مائة شخص آخرين قد وقفوا يتفرجون ويستمعون للهتافات العالية بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية : عيش حرية كرامة إنسانية ، وفجأة حضرت مجموعة الحزب الناصري بقيادة أحمد سرّيّة وضياء داوود ومحمد بركات وجمال كسبر وآخرين ، لم تقف المجموعة الجديدة على الرصيف ، وما الذي يلزمهم بهذا الكردون وهم قد تحركوا من أمام الحزب الناصري إلى حيث نقف نحن هنا ؟! وقاد أحمد سرّيّة الهتاف وألهب المشاعر وبث في الحاضرين روحا من التحدي ، فنزلنا من فوق الرصيف إلى بحر الشارع ، وهتفنا وراء أحمد سرّيّة ، فقد أخذ يضرب على صدره بقوة هاتفا " إحنا اصحاب القضية ، إحنا اصحاب القضية " و " يا جمال قول لابوك الدمايطة بيكرهوك " ورددنا خلفه هتافاته في حماس بالغ ، في هذه اللحظة أخذت الأعداد تتزايد والجو يزداد سخونة ، وكانت الساعة قد بلغت تمام الثانية ، فأخذ الضباط يخاطبون التوارجي ودرة والبياع مطالبين بالالتزام بالموعد المتفق عليه أي الانصراف بعد ساعة واحدة ، في هذه اللحظة تناول التوارجي الميكروفون وأخذ يخطب قائلا " الضباط ليسوا أعداءنا ، نحن نحتفل اليوم بذكرى البطولة التي أبداها ضباط الشرطة الشجعان في الإسماعيلية في عام 1951 ، سوف نتلتزم ونوقف المظاهرة الآن ، ولكن نعدكم أننا سنكون هنا قريبا وسوف نحتفل مرة أخرى وسوف يكون احتفالنا بالنصر ، وأما حبيب العادلي فسوف يكون سجينا خلف القضبان " وصفق الحضور ، وهتف الجميع : يسقط يسقط حسني مبارك ، وانتهت المظاهرة عند هذا الحد.
( 3 )
كان ظني حتى ذلك الوقت أن مظاهرة دمياط هي هذه المظاهرة التي شاركنا فيها ، وأنها قد انتهت عند هذا الحد ، لكني كنت مخطئا تماما ؛ لأن مظاهرة أخرى كانت هناك في منطقة باب الحرس ، حيث تجمع شباب 6 أبريل ، و قد كسروا الطوق الذي كان يحاصرهم على الرصيف عند محطة الأتوبيس ، ومن المفارقات أن سمير الفيل ، الأديب المعروف ، كان واحدا من الذين كسروا الطوق حول مظاهرة باب الحرس ، فتحركت المظاهرة في شارع الجلاء حتى وصلت إلى ميدان البوسطة ، في هذه اللحظة كان مصير ضابط الحرس الجامعي بكلية الآداب يتغيربشكل درامي ، فقد كتب في كتاب حياته المهنية فصل جديد ، فهل كان الضابط الشاب يدري بما تحيكه له الأقدار ؟
حينما تحركت الموجة البشرية في الشارع واستعصت على السيطرة الشرطية المعتادة ، تقرر ألا تعود الشرطة لسكناتها وأماكن انتشارها الأصلية ، ولكن تبقى في الشوارع حتى إخطار آخر ، لم يعد هناك فرق بين نقطة وأخرى ، أينما كان ضابط الحرس ، فإن عودته لمكتبه في كلية الآداب أصبحت مؤجلة حتى إشعار آخر .
وفي صباح اليوم التالي ، الأربعاء 26 يناير 2011م ، قبض على كل من محمد التوارجي وولده شادي ، وضياء الدين داوود ومحمد مصطفى وماهر الشيال وأحمد عماشة وأحمد سرية .
تطورت الأحداث تطورا دراميا متسارعا ، فشهدت مدينة دمياط أكبر مظاهرات في تاريخها يوم جمعة الغضب 29 يناير ، وضربتنا الشرطة بعنف في نهاية اليوم فقتل من قتل وأصيب من أصيب ، وأحرقت بعض مباني الشرطة وبعض السيارات ومقر الحزب الوطني ، وبقيت الشرطة في الشوارع لا تغادر ، ولا تنام ، حتى عصر يوم 29 يناير ، خرج زملاؤنا المعتقلون عند الواحدة ظهرا ، واستقبلناهم في الميدان استقبال الأبطال ، ثم جاء الجيش عند العصرإلى دمياط وتمركز في الاستاد ، فاستقبلنا ضباطه وجنوده بالورود ، وسارت الثورة في طريقها بعزيمة لا تلين حتى سقط الديكتاتور يوم 11 فبراير .
( 4 )
لم أكن أعمل رسميا في كلية آداب دمياط ، وإن كنت عملت بها منتدبا بعض الوقت ، ولا كنت أعرف ضابط الحرس معرفة شخصية ، كان العميد محمد البلتاجي قد ذكر اسما أمامي قائلا : الضابط مهاب ، وكرّت أيام الثورة المجيدة تباعا وعدنا لعملنا في الجامعة ، وجاء الجيش يحرس المنشآت الجامعية ، ثم قدر لي أن أنتقل من جامعة طنطا إلى جامعة المنصورة في دمياط ، وقد تبخر الحرس الجامعي تماما فقد نفذت الجامعات حكم القانون الذي كان يقضي بأن تعين كل جامعة حرسا جامعيا من المدنيين يتقاضون أجورهم من أموال الجامعة ويتبعون رئيسها تبعية مباشرة . وكرّت الشهور أيضا وتقرر أن تقام انتخابات جامعية ، فترشحت لعضوية لجنة انتخابات الكلية ، ثم أصبحت بحكم الأقدمية رئيسا لتلك اللجنة ، وبدأت أمارس عملي من حجرة خصصتها إدارة الكلية لعمل اللجنة .
كانت الغرفة التي تسلمناها مؤثثة جيدا ، بها أنتريه منجّد ومكتب خشبي ومروحة رِجْل "فريش" ، وتليفون أرضي ، لاحظت أن التليفون لا يعمل ، فطلبت إعاة توصيله ، وجاء عامل التليفون لإصلاحه ، وفي حواري معه قال إن التليفون كان لضابط الأمن وأنه لا يعمل منذ ترك الضابط عمله في الكلية ، كان وجود غرفة خاصة وتليفون وأنتريه ومروحة لاستخدام شخص واحد في كلية آداب دمياط أمرا استثنائيا للغاية لأن مبنى الكلية صغير جدا، والإمكانيات محدودة ، وعميد الكلية دائما هو أستاذ منتدب من المنصورة ، ولا يريد لأحد أن ينافسه في المزايا التي يتمتع بها في منصب العميد ومنها وجود جهاز التليفون بخط مباشر والمروحة والأنتريه ، لكن ضابط الأمن كان استثناء من ذلك التقشف ليس في آداب دمياط - الفقيرة جدا - وحدها بل في كل كليات الجامعة في مصر تقريبا .
لم أجد في مكتب الضابط أوراقا تدل على عمله ، فيما عدا بعض تصاريح دخول السيارات إلى حرم الكلية ، ومن المتعلقات الشخصية كان هناك علبة عيدان بلاستيكية لتسليك الأذن ، ما عدا ذلك لم يبق من أثر الضابط شئ على الإطلاق ، ومضى اليوم الأول وأنا أعيد ترتيب الحجرة وتنظيفها ، وغادرت المكان في نهاية اليوم ، وقد ذهبت أخبار الضابط إلى ركن خفي من شعوري واهتمامي .
( 5 )
في اليوم التالي عدت لمواصلة العمل في لجنة الانتخابات ، كان يوما جديدا من شهر سبتمبر ، يوم الاثنين من الأسبوع الثالث من شهر سبتمبرعام 2011م ، وحينما شرعت في كتابة التاريخ وأنا أسجل أول محضر لاجتماعات اللجنة ، نظرت إلى الحائط أسأل النتيجة عن تاريخ اليوم ، في هذه اللحظة لمحت التاريخ عن بعد فلم أتبينه جيدا لكنني عرفته ، وأيقنت أنه هو ، هو يوم العيد ، ذهبت أعدو إلى الحائط المعلقة عليه النتيجة ، وأمسكت بالورقة ، كان التاريخ المدون عليها هو 25 يناير 2011م ، وقد كتب بأسفل الورقة "عيد الشرطة" ، ياااا اللله ، في هذه اللحظة تحديدا كنت شغوفا جدا أن أسأل عن الضابط ، عن اسمه ، وعن رتبته ، وفي هذه اللحظة عرفت الاسم كاملا " مهاب صبري" ورتبته في الميري : "نقيب مهاب صبري" ، بحرس الجامعة بدمياط ، نقيب مهاب صبري قائد الحرس بكلية الآداب ، ياااااه ، ذهب مهاب صبري يوم عيد الشرطة إلى ميدان البوسطة أو إلى مكان قريب على الكورنيش في مدينة دمياط ، حيث مقر الحزب الناصري ، أو لعله كان هناك في باب الحرس ، لمحاصرة المظاهرات ، أو للمشاركة في قمع المظاهرات ، وفي يقينه أنه سيعود لعمله المميز في حرس الجامعة ، لكنه لم يعد أبدا إلى ذلك المكان ، ولم تطأه قدماه منذ ذلك اليوم . وبعد انتخاب عميد جديد للكلية ، سوف تصبح غرفة قائد الحرس مستقرا للأساتذة الرواد الذين لا تسعفهم أرجلهم - وقد تقوست عظامها أو كادت - للصعود إلى الدورين الثاني والثالث بالكلية ، وأما ساكن الغرفة القديم ، قائد الحرس ، فقد ترك مكتبه يوم 25 يناير إلى الشارع ، في مهمة شرطية معتادة ، لكنه خرج ولم يعد .
25 يناير 2012م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق